هكذا، وفي اليوم الـ309 للعدوان الصهيوني الغاشم على قطاع غزة الجائع المحاصر وبينما كنت بصدد كتابة مقال جديد ردا على تصريحات وزير المالية الصهيوني بتسلئيل سموتريتش، الذي قال ما نصه "إن ترك مليوني فلسطيني في غزة يموتون جوعا عمل أخلاقي يمكن تبريره لطالما بقي الرهائن الإسرائيليون محتجزين لدى حماس!!" ولم أكد أفرغ من كتابة السطر الأول ردا على ما كشفت عنه النقاب محطة سي إن إن الامريكية من أن الولايات المتحدة تنوي تقديم 3.5 مليار دولار إلى إسرائيل، لتنفقها على أسلحة وعتاد عسكري أمريكي، مضيفة، بأن" هذه الأموال تأتي ضمن مشروع قانون تمويل إضافي بقيمة 14.1 مليار دولار لإسرائيل أُقر في نيسان الماضي!!"، وإذا بنا نصحو على فاجعة إطلاق ثلاثة صواريخ أمريكية الصنع زنة الواحدة أكثر من 2000 رطل من المتفجرات على "مدرسة التابعين" في حي الدرج، شرق قطاع غزة وتضم مئات النازحين من بيت حانون قبل أيام باعتبارها من المناطق الأمنة بحسب قوات الاحتلال "إلا أن ليس لليهود عامة فما بالكم بالصهاينة، عهد ولا ذمة عبر التاريخ" وذلك أثناء أداء جموع المصلين لصلاة الفجر داخل مسجد المدرسة المؤلفة من طابقين بحسب وكالة سند الفلسطينية، ما أسفر عن استشهاد أكثر من 100 نازح، وسقوط عشرات المصابين معظمهم من المسنين والأطفال، لتكون مجزرة "مدرسة التابعين" بذلك هي الثالثة من نوعها من حيث حجم الدمار وأعداد الضحايا بعد مجزرتي مستشفى المعمداني، ومواصي خان يونس، في وقت أعلنت فيه وزارة الصحة الفلسطينية، بأن "ضحايا العدوان الصهيوني منذ السابع من اكتوبر 2023 قد ارتفع إلى 39699 شهيدا، فيما ارتفعت أعداد الجرحى إلى 91722 جريحا، 72% منهم من النساء والأطفال، كل ذلك يأتي بعد نزوح نحو 85% من سكان القطاع، بينما يواجه نحو 1.11 مليون شخصا من سكان القطاع ظروفا معيشية كارثية وانعداما كليا للأمن الغذائي لتتخطى معدلات سوء التغذية بين الأطفال حاجز الـ300% وفقا لوكالة الأونروا، إضافة إلى تدمير معظم الوحدات السكنية في القطاع، و195 معلما وموقعا تراثيا، وأكثر من 1000 مسجد بشكل كلي أو جزئي، و3 كنائس، علاوة على تدمير 80% من مدارس غزة، ومعظم مستشفياتها ومراكزها الصحية، الأهلية منها والحكومية!
كيف لا وهذا المفكر الفرنسي الكبير روجيه غارودي، يقول في كتابه ذائع الصيت "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" بأن "التطهير العرقي الذي يمارس في إسرائيل اليوم ينبع من مبدأ النقاء العرقي الذي يمنع امتزاج الدم اليهودي بدماء الآخرين بناء على الأساطير الدينية والتوظيف السياسي للأسطورة!
كيف لا وهذا الحاخام الصهيوني إلياهو مالي، وهو رئيس المعهد الديني "ييشيفاة شيرات موشيه" في مدينة يافا يقول جهارا نهارا ما نصه "إذا لم تقتلهم فإنهم سيقتلونك.. الذي جاء لقتلك لا يشمل فقط الشباب بعمر 16 أو 18 أو 20 أو 30 عاما وإنما أيضا جيل المستقبل (أطفال غزة)، وكذلك الذين ينجبون جيل المستقبل (نساء غزة) لأنه لا يوجد فرق حقا، وذلك يأتي استجابة لتعاليم الـ(هالاخا)" وفقا لوكالة روسيا اليوم!
كيف لا وقانون "معاداة السامية" أو "اللا سامية" أو "ضد السامية" هي المظلومية الدائمة التي يحاول الصهاينة الإتكاء عليها لتكميم الأفواه ولملاحقة والتضييق على كل من يهاجم الصهيونية من جهة، ولتبرير جرائمهم بحق الفلسطينيين والناشطين والإعلاميين والمدافعين عن حقوقهم كذلك، بزعم الدفاع عن اليهودية كمجموعة عرقية وأثنية ودينية، وقد سدر مجلس النواب الأميركي في غيه، وأمعن في غدره حين قرر أواخر العام 2023 "المساواة بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية" بحسب صحيفة "ميدل إيست مونيتر" البريطانية، فاسحا المجال بذلك أمام الصهاينة لارتكاب المزيد من الجرائم وقمع المعترضين وتكميم أفواه الناشطين وفقا لهذا القرار المجحف!
حقا وصدقا فإن العبارة الخالدة لأسد الصحراء، عمر المختار، ما تزال تتردد في الآفاق وتتناقلها الأجيال كابرا عن كابر "نحن لن نستسلم، ننتصر أو نموت" ولا غرو بأن الانتصار الحق ليس على الأرض فحسب، وإنما يتخطاه إلى كسب تعاطف الشعوب والضمير العالمي وأسر العقول والأخذ بمجامع القلوب من أقصى العالم إلى أقصاه، وهذا عين ما حدث بفعل الصمود الاسطوري للشعب الفلسطيني، وصبرهم، وشجاعتهم، ورباطة جأشهم على خطى أسلافهم على مر قرون وبما أذهل القاصي والداني، الكثير من الغربيين الذين خدعوا بالسردية الصهيونية الباطلة طيلة عقود بدأوا يفهمون ما يحصل وبدأوا يتساءلون عن الفوائد التي تجنيها دولهم من الدعم اللامحدود والأعمى لدولة عنصرية شوفينية ترتكب إبادة جماعية واضحة؟! ولماذا يحق لهم نقد حكومتهم ولا يحق لهم النطق ببنت شفة عن دولة الكيان وممارساتها الهمجية حتى يجدوا أنفسهم ملاحقين أو يفصلوا من وظائفهم ويحاربوا برزقهم ومستقبلهم بل وقد يجدوا أنفسهم في السجون والمصحات؟!
وهكذا يتبين جليا ما كشف عنه الأكاديمي الأمريكي ريك وايلز، من أن الكيان الصهيوني يريد محو الشعب الفلسطيني من الوجود، وتهجيره من أرضه بالكامل وذلك من خلال التجويع والحصار والقتل الممنهج وتدمير المدارس والمستشفيات والجامعات والمساجد والكنائس والبنى التحتية بالكامل في قطاع غزة قبل الانتقال لاحقا الى الضفة الغربية لتدميرها بالمثل، وليس الهدف هو إطلاق سراح الرهائن والقضاء على حركات المقاومة فحسب كما تزعم الآلة الإعلامية الصهيونية المضللة.
ومن الأساطير التي أثارها المؤرخ ايلان بابيه، في كتابه المهم "عشر أساطير عن إسرائيل" الصادر عام 2017 عن "دار فيرسو بوكس" الأمريكية، أسطورة أن فلسطين أرض بلا شعب، وأن اليهود شعب بلا أرض، وأن الصهيونية ليست استعمارا، وأن الفلسطينيين يهاجرون طوعا عن أرضهم، وأن إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وأن كل حركات المقاومة الفلسطينية هي حركات إرهابية، وعلى الفلسطينيين أن يرضوا بـ"حل الدولتين"، و"صفقة القرن"، فهل هناك إضافة على ما قاله ولاسيما بأن ما يسمى بـ"حل الدولتين" بل وحتى "حل الدولة الواحدة" الذي يتضمن دولة واحدة تضم شعبين مختلفين، لم تعد موجودة على الأرض واقعا!.
ومن الكتب المهمة الصادرة عام 2020 كتاب "الصراع مع الصهيونية: أصوات معارضة يهودية" لمؤلفته الإسرائيلية دافنا ليفيت، وقد استعرضت وأضاءت على صفحات كتابها خيبة أمل ومواقف 21 مفكرا يهوديا، بينهم اينشتاين، ونعوم تشومسكي، وغيرهم ممن عارضوا الصهيونية كفكرة قومية أممية عنصرية، ابتعدت أو لنقل تناقضت وتقاطعت مع اليهودية كشريعة سماوية ولم يعد كثيرون حول العالم يفرقون بين اليهودية كدين وبين الصهيونية كحركة فاشية عنصرية سياسية.
فيما يحتدم الصراع داخل الكيان الصهيوني المسخ ولا سيما بين الحاخامات الرافضين كليا للتجنيد والانخراط بالجيش خلال الحروب الدموية المتتالية التي يؤججونها، ويسعرون نيرانها، ويحرضون عليها، مكتفين بالتحريض ودراسة التوراة والدعاء للجيش فقط لا غير من جهة، وبين القيادة العسكرية التي تتحرك جديا لتجنيد "مجتمع الحريديم" أسوة بأقرانهم من جهة أخرى، وبينما غرد الحاخام شاي بيرون، خارج سرب الحاخامات داعيا إلى التحاق المتدينين بصفوف الجيش لأن تطوعهم للصلاة فقط من أجل من يقاتلون في الميدان من دون عودة أبنائهم قتلى في توابيت لم يعد كافيا، مؤكدا أن أسباب رفض الحريديم للتجنيد الإلزامي يرجع الى رفضهم بأن يكونوا جزءا أساسيا من الدولة، وفقا لصحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية، ليتدخل حاخام السفارديم الأكبر يتسحاق يوسف، مفجرا قنبلة من العيار الثقيل مفادها "إذا ما قامت الحكومة الاسرائيلية بإجبار اليهود المتدينين – الحريديم – على أداء الخدمة العسكرية فإنهم سيهاجرون من إسرائيل وعلى الحكومة أن تعرف بأن دراسة وصلوات طلاب المعاهد الدينية هي ما تمنح الحماية للجيش الإسرائيلي"، ما أثار لغطا كبيرا وتسبب بأزمة داخلية حادة تضاف إلى سلسلة الأزمات المتفاقمة التي تعصف بالمجتمع الصهيوني الذي يعاني من التمييز العنصري الصارخ بين الأعراق والطوائف والقوميات والطبقات والألوان، فيما أكد مسؤولون كبار بأن تصريحات الحاخام الشرقي الأكبر تشكل خطرا على أمن اسرائيل، وعلى الحكومة حجب الأموال عن كل من يرفض التجنيد الإلزامي.
وختاما، أقول إن مجزرة "مدرسة التابعين" هي إدانة ووصمة عار في جبين كل المتخاذلين والمطبعين إلى يوم الدين بالمقابل فهي فخر لكل المدافعين عن أرضهم وأعراضهم وثوابتهم ومقدساتهم وهي نبراس لجميع الصابرين والثابتين والمحتسبين.