توفي الأمير بن الأمراء الدي ولد إبراهيم ولد الدي ولد بكار، فلم تكن تلك المصيبة مصيبة عشيرته الأقربين إيدوعيش، ولا مصيبة منطقة تگانت أو الحوض حيث ولد وسكن وعاش، بل هي مصيبة جميع موريتانيا التي عاش المرحوم الدي لها، وسعى في بنائها. لقد ماتت بموت الدَّيْ خصال كثيرة، كان رحمه الله قويا مع خضوع للضعفاء، وذا نخوة مع معاشرته الحلوة للناس، جمع قوة الدين إلى مكارم الأخلاق، ونبل الأمراء إلى حصافة الدبلوماسي، وعزة النفس إلى معرفة عميقة بالتراث الموريتاني من تاريخ وأدب وموسيقى.
تشعر وأنت تقرأ التأبين تلو التأبين الذي نشرته مواقع الشبكة هذه الأيام حول المرحوم الدَّيْ أن وفاته تركت فراغا لا يسد، وفواتا لمكارم لا تعد، وأنك أمام رجل من طينة خاصة، وأمام شخصية لا تجارى في الشهامة ولا تبارى في المجد.
فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلكُهُ هُلْكَ وِاحِدٍ * وَلَكِنّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا
ومن المعلوم أن الدَّيْ في المجتمع الإدوعيشي هو لقب الأمير أبي الأمراء امحمد شين ولد بكار ولد أعمر المتوفى نهاية ديسمبر 1788م، ومن هنا صار كل من تسمى غالبا بامحمد شين يطلق عليه الدَّيْ، ويعرف به دون اسمه الأصلي، ولقب من هذا النوع في المجتمع البيظاني فيه إكبار للمسمى واستحضار للمسمى عليه.
والدَّيْ ولد إبراهيم مُعَمٌّ في بيت إمارة تگانت مُخْوَلٌ، فهو كما يقول أخونا الحسين ولد محنض في تأبينه له: ولد لأبيه إبراهيم ولد الدَّيْ ولد بكار ولد اسويد أحمد، ولأمه السالمة بنت عبد الرحمن ولد بكار سنة 1933 في مقاطعة المجرية، فكان حفيدا لعظيمين من أسرة أهل اسويد أحمد هما جده لأب الدَّيْ ولد بكار، وجده لأم الأمير عبد الرحمن "الدان"، فقابل بين طرفين كبيرين وظاهر بين أصلين نبيلين.
درس الدَّيْ الابتدائية في تجكجه وكيفه، ثم ولى وجهه نحو معهد بوتلميت، وتابع بعد ذلك في إعدادية روصو، ولن يبلغ سنه الثامنة عشرة حتى يعين ترجمانا في أطار ثم في شنقيط فوجد أمامه في آدرار الترجمان الراحل المنفق الكريم محمد صالح بن محمد سيديا بن الشيخ أحمد بن الفاضل الديماني وكان الدَّيْ يثني عليه خيرا، وبعد ذلك تم تحويله ترجمانا إلى تمبدغه. ثم عين وهو ابن ثلاث وعشرين سنة مديرا لديوان وزير التخطيط والتوسع الاقتصادي بسان لويس "اندر".
عضو أول دفعة إدارية موريتانية
في سنة 1958 سافر الدَّيْ إلى فرنسا رفقة سبعة أطر موريتانيين لتكوينهم بالمدرسة الوطنية الفرنسية لما وراء البحار في الإدارة. وبعد سنتين ونيف تخرج أولئك المبتعثون ليصبحوا أول دفعة إدارية وطنية ستخلف الفرنسيين في إدارة البلد بعد الاستقلال.
خلال دراسته في فرنسا أجرى الدَّيْ تكوينا في معهد البرانيس العليا "Institut des Hautes Pyrénées"، وكتب خلال دراسته أول مذكرة تخرج عن العبودية في موريتانيا حملت بعنوان: العبودية كما هي في موريتانيا (L’esclavage tel qu’il se présente en Mauritanie). وقد حلل في تلك الدراسة ظاهرة الرق في المجتمع الموريتاني مبينا مفارقة غريبة وهي أن الحياة في الصحراء لا تسمح للساكنة بكثير من الامتيازات، وهو ما يعني أنه لا توجد اختلافات كبيرة بين الأسياد والأرقاء، وأن مفهوم الندية حاضر بشدة في منظومة القيم التي تحكم تلك العلاقات. كما كتب الدَّيْ بحث نهاية التدريب حول الطريقة التجانية في موريتانيا.
بعد التخرج التحق الدَّيْ بالإدارة الإقليمية وتم تعيينه حاكما لآمرج، وإليه يرجع الفضل في تأسيسها، ثم حاكما لدائرة إينشيري (والي). وفي سبتمبر 1961 عين وزيرا للإعلام والوظيفة العمومية.
أول وزير يستقيل في تاريخ موريتانيا
في أواخر سنة 1962 استقال الدَّيْ ولد إبراهيم من وزارة الوظيفية العمومية تضامنا مع زميله الوزير بوياگي ولد عابدين الذي تعرض للطرد من هيئات حزب الشعب، وهو الحزب الحاكم، بسبب مواقف بوياگي من قضايا المحاصصة والتمثيل والوحدة الوطنية، ورآى مناصرو بوياگي في ذلك الإبعاد تعسفا وتجاوزا، وقد استقال معه في نفس الأيام بوياگي من وزارة النقل والبريد والمواصلات.
والاستقالة من منصب الوزير أمر نادر في تاريخ موريتانيا السياسي، فبالإضافة إلى الوزيرين الدي ولد إبراهيم وبوياگي ولد عابدين هنالك دافا بكاري الذي استقال طواعية سنة 1981 من وزارة التجهير والنقل والمواصلات في عهد الرئيس محمد خونه ولد هيداله، وكذلك سيدي محمد ولد محم الذي استقال سنة 2019 في آخر عهد محمد ولد عبد العزيز، وإذا كان هنالك استقالات غير هذه فهي قليلة وفي حكم النادر.
المسار الديبلوماسي الحافل
دخل الدَّيْ مسارا ديبلوماسيا حافلا؛ إذ عين سفيرا في الجزائر في فترة ازدهار العلاقات بين البلدين، ثم سفيرا في السينغال في 1970 في فترة ترسيم الحدود بين موريتانيا والسينغال، معتمدا لدى غامبيا وغينيا والسيراليون وجزر الرأس الأخضر. ثم سفيرا في تونس التي كانت أخص أصدقاء موريتانيا في ذلك العهد في 1973، وسفيرا في فرنسا قبيل حرب الصحراء، فقاد سياسة التعاون العسكري بين البلدين خلال الحرب، ليعود إلى وطنه، ويعين سفيرا مديرا للشؤون الإدارية بوزارة الخارجية.
بعد انقلاب 1978 عين الأمير الدي سفيرا في إيران حيث واكب ثورة الإمام الخميني، ثم اختير بعد حركة ابريل 1979 التي قادها أحمد ولد بوسيف سفيرا في المغرب ليحيي محور داكار- نواكشوط- الرباط- باريس. وفي 1981 عاد الديْ للبلد مجددا ليشغل منصب سفير مدير الشؤون الإدارية والقنصلية، ثم سفيرا غير معين بوزارة الخارجية حتى التقاعد.
إلى جانب ذلك انتخب الدَّيْ سنة 1965 نائبا في البرلمان الموريتاني في فترة الحزب الواحد. وعندما أعلن عن التعددية الديمقراطية، انتخب 1994 سناتورا عن الحزب الحاكم، وظل كذلك إلى أن أطيح بنظام ولد الطايع في انقلاب عسكري في أغسطس 2005.
الدَّي ولد إبراهيم الإنسان.. طريق الفضائل
كان الدَّيْ إنسانا بما في الكلمة من معنى، تجسدت فيه قيم المرابطين من عفة ونجدة، وورث عن أرومته الإدوعيشية معاني النبل والقوة والشجاعة وقول الحقيقة. لم تمنعه علاقاته العميقة مع الرئيس المختار من مصارحته بمواقفه إذا اختلفا في الرؤية. وقف إلى جانب صديقه بوياگي ولد عابدين لما كان في مواجهة مع حكومة الرئيس المختار، وتحالف مع سليمان ولد الشيخ سيديا وسيدي المختار ولد يحيى انجاي وحمود ولد أحمدو في أول أزمة دستورية عرفتها البلاد في أوائل ستينات القرن الماضي، وكانت لهم رؤية مخالفة لرؤية الرئيس المختار.
وقد ظل الدَّيْ يحتفظ بكثير من الود والوفاء والإخلاص لصديقه المقرب من الرئيس المختار والوزير النافذ والسياسي المحنك أحمد ولد محمد صالح، فمنذ أن تعارفا في خمسينات القرن الماضي توثقت بينهما علاقات لم تغيرها تقلبات الدهر، ولا عوادي الزمن. كان بيت أهل محمد صالح في نواكشوط بيت الدَّيْ ومسكنه الثاني.
ولعل علاقته بالأمير محمد فال ولد عمير من الشواهد الكثيرة على شهامة الدَّي رحمه الله ونخوته وصلابته. ففي سنة 1963 عُيِّن الدَّيْ واليا للترارزة، ثم واليا للحوض الغربي في 1964، وقد سبقه إلى مدينة العيون الأمير محمد فال ولد عمير سجينا هنالك، هو ومحمد المختار ولد اباه المسجون بتامشكط بعيد عودتهما من المغرب، رحم الله الجميع. بادر الدَّيْ أول ما وصل مدينة العيون بالذهاب إلى الأمير ولد عمير والسلام عليه والاحتفاء به في سابقة لم تكن معهودة عند موظفي الإدارة وتعاملهم مع معارضي الدولة. وقد تجسد احتفاء الدَّيْ بولد عمير في أمره بإبعاد الحرس عن المنزل الذي كان محتجزا به، كما نقل إلى المنزل تجهيزات من أهمها الثلاجة الموجودة في منزل الوالي، وذلك إمعانا في إكرام الأمير المحتجز، والرفق به واحترامه وتقديره.
وقد وصلت إلى العيون شخصيات من أسرة ولد عمير وهم أحمد ولد أعمر ولد اعلي وأحمد سالم ولد سيدي وأعمر ولد احميدها رحمهم الله، فنزلوا مكرمين معززين في منزل الدَّيْ الذي قال لهم: إن المنزل الذي فيه ولد عمير مفتوح أمام الجميع، ودخوله ليس بحاجة إلى إذن إداري. وكانت هذه التصرفات التي يظهر منها العناية بالسجناء والرفق بالمعارضين خارجة عن المألوف في العرف الإداري، وكانت على مرأى ومسمع من حكومة الرئيس المختار ولد داداه، الذي بادر واستدعى الدَّيْ إلى نواكشوط على عجل.
بدأ الدَّيْ، وهو في نواكشوط، بمنزل صديقه أحمد ولد محمد صالح، وهو وزير الداخلية حينها، والذي اعتذر بحصافته المعهودة عن جهله لسبب الظروف الاستعجالية التي دعت إلى استدعاء الدَّيْ قائلا لصديقه: إن الرئاسة هي من استدعتك وهي أعلم بأسباب استدعائك، وكان الدَّيْ يعرف أن الأمر بمرمته يتعلق بمعاملته اللائقة للسجين المعارض الأمير ولد عمير، وأن أحمد ولد محمد صالح على بينة من الأمر، وليس له، حتى مع أعز أصدقائه، أن يدخل نفسه في هذا الشأن الخاص بالرئيس المختار وبالوالي الدَّيْ.
وفي الرئاسة، أدخل مدير الديوان، المرحوم صال عبد العزيز، الوالي المستدعى على عجل إلى مكتب المختار ولد داداه الذي بدأ كعادته مع ضيوفه في حديث هادئ، ومرونة لا تخطئها العين، وأدب جم، وأسئلة عن أوضاع ولاية الحوض الغربي، وعن مشاكل الحدود مع الجارة مالي، وعن أحوال المنمين هنالك، وما يطرحه انتجاعهم من إشكالات داخل الحدود المالية. وكانت أجوبة الدَّي مطمئنة وردوده على أسئلة الرئيس هادفة. ثم سأله المختار: كيف حال ضيفكم (يعني ولد عمير) فقد بلغنا أنه لا يشتكي من شيء؟ وذلك تلميح مؤدب من الرئيس المختار للمعاملة المثالية التي عامل بها الدَّي الأمير ولد عمير. فما كان من الدَّيْ إلا أن قال للمختار: سيدي الرئيس، إذا كنتم تريدون مضايقة ولد عمير فعليكم أن تحولوني إلى دائرة أخرى غير الحوض الغربي وتجعلوا مكاني من سيقوم بمضايقته، أو تحتجزوه هو في مكان آخر غير دائرة الحوض الغربي، فيلقى في ذلك المكان ما يراد له من المضايقات، فأنا لست مستعدا للقيام بذلك الأمر. وبخصوص أمري للحرس بتركهم حراسة منزله فلا أعتقد أن ولد عمير بحاحة إلى المراقبة والرصد، فاطمئنوا سيدي الرئيس، فإني أعرف فيه من الشهامة ما يحول بينه وبين أن يسجل له التاريخ أنه هرب. وسواء حرسناه أو لم نحرسه ففيه من المروءة ما يمنعه من أن يسبب لي أي حرج ما دام محتجزا في الحوض الغربي وأنا هو الوالي. وعموما، لو افترضنا ما تخشونه، يا سيدي الرئيس، من هروب ولد عمير من محتجزه في العيون وهو أمر لن يقع، فمعنى هذا أن سليل أمراء الترارزة هرب من سجنه، وهاهو سليل أمراء تگانت بين أيديكم فاسجنوه مكانه، أمير بأمير وسجين بسجين. فما كان من المختار، وبعد هذه المحاججة القوية، قال المختار للدي: لا يمكن لأحد أن يشكك في وطنيتك ولا حرصك على صلحة البلد، فعد إلى مكان عملك بالعيون، وظل الدي محافظا على معاملته الحسنة لولد عمير.
وقد رويت هذه القصة عن المؤرخ الحصيف محمد ولد إبراهيم ولد الدَّيْ شقيق المرحوم الدَّيْ، وقد تعمدت إيرادها بالتفصيل لمافيها من المعاني والدلالات، وكيف كان الدَّيْ رحمه الله مستقلا في رأيه دون التعدي على حرمة الدولة ونظامها، وحصيفا في تعامله مع الآخرين، وعميقا في فهمه لطبيعة الناس.
ومن جانبه يذكر الدكتور محمد المختار ولد اباه رحمه الله في مذكراته (رحلة مع الحياة ص 179-183) كيف أعطى الدَّيْ رحمه الله وهو الوالي في الحوض الغربي الأوامر الإدارية بالرفق أثناء احتجازه في تامشكط. وقد دخل الديْ ومعه حاكم تامشكط سيدي محمد ولد عبد الرحيم على محمد المختار ومعه أوراق وأدوات الكتابة، ثم بعد السلام والتبجيل التفت إليه قائلا: هل عندك ما ترغب في إبلاغه للحكومة ؟ يقول محمد المختار: أحرجني هذا السؤال لأني ليس عندي في الحقيقة ما أقوله للحكومة، ولأني لا أود أن أظهر وكأني أقلل من شأن نية الوالي، ثم بعد حيرة وتردد، قلت إنني قد رددت على أسئلة الشرطيين الذين قاموا باستجوابي ولست أدري هل أطلع عليها، وأني أقدر له كل مسعى يقوم به لتوضيح قضيتنا، ولم أكن أعرف ما الذي كان ينتظره الوالي مني، ولكن لاحظت أنه لم يك مرتاحا لما قلت، ولذلك، فإنه لم يكتب شيئا وإنما اكتفى بسؤالي عن ظروف إقامتي وأجبته أنني لا أشتكي من شيء.
يقول محمد المختار أنه لما مرض بتامشكط مرضا شديدا وتم نقله إلى العيون بأمر من الدَّي وكان الديْ أول من زاره متفقدا الغرفة التي أعدت له وأوصى الأطباء على كل ما احتاج إليه.
وفي كل هذه الإشارات التي ساقها الدكتور محمد المختار ولد اباه في مذكراته جانب من شخصية الديْ المتميزة، وحرصه بنفسه على تعزيز الإنسان وتكريمه مهما كان موقف الدولة منه.
خاتمة:
مع ما يتمتع به المرحوم الدَّيْ ولد إبراهيم من خصال يصعب حصرها في هذا المقال فإنه كان مؤرخا وراوية وحافظا لحوادث التاريخ وفاهما لمعانيها، فضلا عن عناية خاصة بالموسيقى الموريتانية وعلاقتها بتاريخ هذه البلاد.
وتحتفظ المكتبة الوطنية بباريس بتسجيلات نادرة للفنان الراحل أحمد ولد دندني فيها عزف راق على آلة التيدنيت وإنشاد لبعض نصوص التهيدين التي قيلت في أمراء الحوض وتگانت، مع تعليقات للدَّيْ على تلك النصوص.
رحم الله الدَّيْ ولد إبراهيم برحمته الواسعة فقد اختزل في شخصيته كثيرا من القيم والفضائل، وبوفاته فقد موريتانيا شخصية فذة ونبلا وفضلا ومجدا.