في الآونة الأخيرة، تزايدت النقاشات في الأوساط الموريتانية حول الخطة المثلى لإدارة عوائد مشاريع الغاز المكتشفة حديثاً، واختلفت الآراء حول تأثير هذه العوائد على الاقتصاد الوطني، حيث يعتقد البعض أنها ستكون مصدرًا لتحول كبير ينعش المجتمع والاقتصاد، بينما يرى آخرون أن تأثيرها لن يختلف كثيرًا عن الثروات الطبيعية السابقة مثل الأسماك والمعادن والزراعة التي لم تحقق النتائج المرجوة.
ومن وجهة نظري، فإن التركيز على العائدات المالية المباشرة من بيع الغاز ليس هو الخيار الأمثل، بل يجب أن نحدد ونناقش الفوائد غير المباشرة التي يمكن أن تتحقق من خلال استثمار الغاز في دعم قطاعات أساسية مثل الصناعة والمعادن والزراعة.
الاقتصاد الموريتاني، مثل العديد من الاقتصادات الريعية، يعتمد بشكل كبير على تصدير المواد الخام مثل الحديد والأسماك والمنتجات الزراعية، وهذا النموذج الاقتصادي غير مستدام، لأنه لا يوفر فرص عمل كافية للمواطنين ولا يسهم في تحقيق معدلات نمو اقتصادي مرتفعة، فبدلاً من استغلال هذه الموارد لتطوير الصناعات المحلية أو تحقيق قيمة مضافة، يتم تصديرها كما هي بأسعار منخفضة؛ والنتيجة هي الاعتماد على إيرادات غير مستقرة تتأثر بتقلبات الأسواق العالمية، مما يجعل الاقتصاد عرضة للأزمات والتقلبات، ولتحقيق اقتصاد أكثر استدامة، ينبغي تحويل الغاز إلى مصدر للطاقة يُستخدم لدعم التصنيع والزراعة والتعدين، وهما القطاعات القادرة على خلق وظائف جديدة وتحقيق نمو اقتصادي مستدام.
أحد أهم التحديات التي تواجه قطاع الزراعة في موريتانيا هو نقص الطاقة وارتفاع تكلفتها، رغم أن البلاد تمتلك أراض خصبة ومصادر مياه وفيرة؛ إلا أن المزارعين يواجهون صعوبات كبيرة بسبب غياب البنية التحتية اللازمة لدعم الإنتاج الزراعي ونقله إلى الأسواق الخارجية، يتمثل هذا التحدي بشكل أساسي في غياب الطاقة الكافية لتشغيل المعدات الزراعية، تخزين المحاصيل، ونقلها. إذا تم تحويل الغاز المكتشف إلى طاقة كهربائية بأسعار معقولة، يمكن تحسين أداء القطاع الزراعي بشكل كبير، ما سيسمح بتوسيع الإنتاج وتحسين قدرته التنافسية في الأسواق المحلية والدولية. هذا الاستثمار في البنية التحتية للطاقة الزراعية يمكن أن يخلق فرص عمل جديدة ويزيد من الدخل القومي.
أما بالنسبة للقطاع الصناعي والمعدني، فإن ارتفاع تكاليف الطاقة يعد عائقاً رئيسياً أمام تطويرهما، فالصناعة في موريتانيا بحاجة إلى دعم قوي لتجاوز هذا التحدي وتحقيق قفزات نوعية في الإنتاجية، بتحويل الغاز إلى طاقة كهربائية منخفضة التكلفة، يمكن توفير بيئة أكثر جذباً للاستثمارات الصناعية، ما سيمكن من إحياء القطاعات الصناعية المختلفة مثل التعدين وتصنيع الحديد. على سبيل المثال، بدلاً من تصدير خام الحديد بسعر منخفض، يمكن استخدام الغاز لإنتاج حديد مسلح عالي القيمة، مما سيزيد من القيمة المضافة ويعزز مساهمة القطاع الصناعي في الاقتصاد. بذلك، تصبح الطاقة المتولدة من الغاز ركيزة أساسية لدفع عجلة النمو الصناعي وتحقيق التنمية المستدامة.
من هذا المنطلق، أرى أن من الضروري إنشاء لجنة دائمة لإدارة منافع الغاز، تكون مهمتها مراقبة وتحليل تأثيرات الغاز المباشرة وغير المباشرة على الاقتصاد الوطني. هذه اللجنة ستتولى متابعة مؤشرات مثل عدد الوظائف التي يتم خلقها للمواطنين، عدد الشركات الناشئة، مستوى الاستثمار في البنية التحتية، بالإضافة إلى مراقبة تطور القطاعات الأساسية، كما ينبغي أن تعمل اللجنة على وضع خطط طويلة الأمد لاستثمار الغاز في تحويله إلى طاقة، تُخصص بشكل أساسي لدعم منطقة صناعية ضخمة، ويجب أن تفرض الدولة شروطاً على مستخدمي هذه الطاقة المدعومة لتوطين الوظائف تدريجياً، بدءاً من المهن البسيطة على مدى زمني قصير وصولاً إلى تدريب الكوادر المتخصصة في المهن الإدارية والفنية على مدة زمنية متوسطة، وانتهاءً بتوطين كامل يهدف لتقليل الاعتماد على العمالة الأجنبية وتعزيز القدرات الوطنية.
إلى جانب ذلك، يجب على الدولة أن تضع خططًا لدعم القطاع الزراعي بشكل مباشر، وذلك من خلال شراء المحاصيل من المزارعين بأسعار معقولة، وتوفير الدعم اللازم للمزارعين في شكل معدات وأسمدة ومبيدات. كما ينبغي إنشاء معاهد تدريب متخصصة لتخريج كوادر في مجالات مرتبطة بالزراعة مثل فنيي صيانة آلات الحصاد، فنيي الكهرباء، وفنيي المبيدات الحشرية، هذا الاستثمار في تطوير المهارات الزراعية سيعزز الإنتاجية الزراعية ويؤدي إلى زيادة الكفاءة في استخدام الموارد. بهذه الطريقة، يمكن للزراعة أن تتحول من مجرد قطاع إنتاجي صغير إلى ركيزة أساسية لدعم الاقتصاد الوطني وتعزيز الاكتفاء الذاتي الغذائي، فضلاً عن فتح أسواق تصدير جديدة.
ومن الجوانب المهمة أيضًا التي يجب أخذها في الاعتبار هو أن استغلال الغاز غالبًا ما يُرافقه إنتاج كميات كبيرة من المنتجات البتروكيماوية، في حال عدم الاستفادة من هذه المنتجات، يتم حرقها مما يؤدي إلى خسائر كبيرة في الفرص الاقتصادية.. لذلك، من الضروري أن تضمن الدولة إتاحة الفرصة للقطاع الخاص للاستثمار في هذه المنتجات البتروكيماوية والاستفادة منها في التصنيع أو التصدير، هذا سيساهم في تنويع الاقتصاد الموريتاني وفتح أبواب جديدة للنمو الاقتصادي. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لهذه المنتجات أن تشكل مصدر دخل إضافي يدعم مختلف القطاعات الصناعية والزراعية، ويعزز قدرة البلاد على المنافسة في الأسواق العالمية.
في الختام، يجب أن نفهم أن الغاز ليس غاية في حد ذاته، بل وسيلة لتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، إذا تم استغلال الغاز بشكل صحيح، فإنه يمكن أن يكون محركًا رئيسيًا لتحويل الاقتصاد الموريتاني نحو نموذج أكثر استدامة وقادر على خلق فرص عمل جديدة، وتعزيز النمو في قطاعات حيوية مثل الصناعة والزراعة. تحويل الغاز إلى طاقة لدعم هذه القطاعات سيمكّن موريتانيا من تجاوز التحديات الاقتصادية الحالية ويمنحها القدرة على بناء اقتصاد قوي ومتوازن.. لذا، ينبغي أن نركز على العوائد غير المباشرة للغاز، ونضمن أن يتم توجيه هذه الثروة نحو بناء بنية تحتية قوية، وتحسين قدرات القوى العاملة الوطنية، وتعزيز التنافسية على المدى الطويل.