بدع مستحدثة في إدارة الحجيج تجلب لأصحابها متاعب
لذلك لا نستغرب إذا سمعنا ادعاء ملك توج حديثا توسعة جديدة للحرم تحمل اسمه يعزز بها اللقب المستعار الذي يطلقه آل سعود على أنفسهم "خادم الحرمين الشريفين"، توسعة بعد أخرى ما نزال نسمع عنها منذ خمسين سنة أو يزيد، ولا نرى أن لها أمدا أقصى تريد أن تنتهي إليه. بل إن التوسعة صارت توسعات، والحرم يشكو إلى بارئه ما يجد من تعثر ومراوحة في الأمكنة نفسها ولا يظهر للعيان أنه سيقضى أمرها قريبا، بل إنه بات معلوما أنه لا يراد لها أن تنتهي ولو استمرت قرنا آخر من الزمان، ما دامت حجة ماثلة أمام العالم الإسلامي لعله يقتنع ألا مجال لزيادة أعداد الحجاج، بما لا طاقة للمملكة على استيعابه، وبما لا يجلب لها ما قد يزعج هدأتها، إذا كان هنالك من الزوار من لا يرضى على ولاة أمورها بما يفعلون.
يدفع إغفال الحق في النظر إلى الكعبة المشرفة الناس إلى التحايل على الحواجز التي تحول دون وصول غير المحرمين إلى الصحن الشريف لأداء الطواف حول الكعبة قريبا منها في هذا الموسم. لقد دفع بهؤلاء إلى الأدوار العلوية في مطاف الشوط الواحد منه قد يستغرق ألف متر أو يزيد، أي أنه متعذر على الأصحاء قبل المرضى وأصحاب الأعذار إلا أن يكون بمشقة قد لا تطاق. لقد وجد الناس الراغبين في رؤية الكعبة المشرفة في لباس الإحرام وحده، من دون الدخول في الإحرام شرعيا، حيلة تسمح لهم بتجاوز العساكر الذين يراقبون المحرم من غيره من خلال ثيابه. قال لي أحدهم إنه جاء من فج عميق ليرى الكعبة ويطوف من حولها ولو بغير إحرام وهم قد اشترطوا الإحرام، إذن ألبس لهم ما يريدون كي أنال ما أريد. الفكرة المبتدعة هنا جاءت من قبل الهيئة الراعية للحرمين، لتخفيف الزحام داخل الصحن الشريف، ولكنها لم تفلح في تنفيذها بل خلقت لها متاعب جمة. وهكذا تجد الأنظمة داخل الحرمين الشريفين في جلها مرتجلة وغير فعالة وغير مقنعة، توضع لحل مشكلة ما فتولد لمبتدعيها مشكلات.
فروق بين الحرم ومبنى الساعة
لوقف الملك عبد العزيز، وما يجاوره من مبان شاهقة يضايق بعضها بعضا، بعد اقتصادي واضح بجلاء، والداخل إلى إحدى المباني يشعر كأنه يتجول في أسواق غربية الطابع، ولولا أن من يشرف على هذه الأسواق معجب بأساليب الرأسمالية في المال والأعمال ما استلهم منها نموذجا يحتذى، جلبه إلى بلده ووضعه في وقف المسجد الحرام، إنها ذهنية لا تتفطن إلى أن المثال المستجلب نفايات حضارة حديثة دخلت طور الإدبار. والحديث بالحديث يذكر هاهنا، فإن بعض الأساتذة الوافدين على جامعة أم القرى للتدريس فيها، فسخت عقود عملهم وأجبروا على مغادرة المملكة، لأنهم أرادوا أن يدرجوا مالك بن نبي (رحمه الله) في مناهج الجامعة! ومالك بن نبي رجل فتح الله عليه فكشف ما في الحضارة الغربية من زيف، وخط لأمته سبيلا للنهضة، ما تزال شروطها حية تذكر، استفادت من نورها دول مسلمة كماليزيا فأبدعت.
الجدير بالذكر أن مبنى الوقف هذا بني بأموال الأمة، وقيل للناس إنه من نفقة العائلة المالكة، ولا أدري من أين لهم بهذا؟ شرع في بنائه بعد الشروع في التوسعة، وانتهي منه قبل الانتهاء منها. وأبعدت من جنباته وساحاته كل مظاهر الإنشاءات خاصة الرافعات. وليس شأن بنائه بسيطا ليسهل الانتهاء منه، ولربما كانت الغاية المادية من وراء الإسراع في إتمامه؛ لذلك لا يصعب عليك دخوله للتبضع فيه والخروج منه متى شئت، أما الحرم الشريف فمتعسر عليك الدخول إليه والخروج منه. فلا تزال الأشغال به متراكمة، والرافعات عليه منصوبة، تأخذ من هدأته وتشوه جمال المنظر فيه. ولا أعلم كيف تلقى القائمون على التوسعة الرسالة الربانية الغاضبة حينما سقطت الرافعة على رؤوس الحجيج في الحرم المكي سنة 2015 م، وأودت بحياة المئات من الأبرياء إلى التهلكة، سوى قولهم إن الأحوال الجوية الرديئة وسوء تثبيت الرافعة كانا وراء المصيبة!
مزاحمة المباني الحديثة للبيت العتيق
إن مزاحمة المباني المنشأة حديثا للبيت العتيق يوحي بتأثير الجبال المتموضعة حول الكعبة في خيال من هندس. فكأن المباني المحيطة بالحرم المكي جبال كجبال مكة سواء بسواء. إنه لو كان واضع الخطط التي تنفذ حاليا راعى الحاجة إلى جعل الكعبة هي المركز الذي لا ينبغي أن يتوارى شعاع نوره عن أي بقعة طاهرة من المسجد الحرام لكان عبقريا بامتياز، لا تبلى براعته أبد الدهر بين البشر. ولعله كان من الأنسب لذلك أن يستدير المسجد حول الكعبة استدارة لا تميل، تتوالى حلقاتها كأنها مدار تطواف يكبر بعضها بعضا؛ ليبقى شموخ الكعبة فوق كل مبنى ينشأ مهما علا عماده.
وأشير هاهنا إلى حادثة وقعت ذات صبح، حينما قرأ الإمام بالناس سورة فيها سجدة، فسجد حين وصل إلى الموضع وتبعه من كان يعلم بالسجدة أو من كان يراه، وركع أغلب المأمومين فيما رأيت، ولم يتدارك المأمومون الخطأ الذي وقعوا فيه إلا بعد أن رفع الإمام بالتكبير لا بالتسميع، ليختلط الأمر على الناس أشد ما يكون الاختلاط. وقل مثل ذلك وأكثر فيما لو انقطع التيار الكهربائي فجأة فعم الصمت أرجاء المكان، إذن لوقعت مفسدة حقيقية بالطاعات. إن مراعاة تلك الحاجات في هندسة المباني يتطلب إرادة لوضع كل الجبال المحيط بالحرم رهن الهد كلما احتاجت التوسعة إلى ذلك. وتظل المباني الهيفاء أحسن حالا من نظيرتها المفخمة، التي حجبت عن الناس ما كانوا يرغبون لأنفسهم من زيارة المكان، ولم ينل من كان في نفسه حاجة في خدمة الحرمين من هؤلاء الزوار الكرام أي إعجاب أو تقدير.
ومما يعزز الظن السيئ بالتوسعة وأنها متاجرة سياسية أكثر منها خدمة للحرمين الشريفين، تمدد الحرم المكي، شمالا، وتحاشي توسعته جنوبا باتجاه مبنى الساعة وشرقا باتجاه قصر الصفا. قصر الصفا الذي يحاذي الحرم من جهة جبل الصفا ويعلو جبل أبي قبيس، أحد الأخشبين، يضايق بسوره المنيف سبيل الحجيج المارين بالقرب من المسعى كثيرا. ولقد كنت سألت عسكريا يعمل بالحراسة بين المسجد والقصر عن هذا المبنى الشاهق ما علاقته بالمسجد الحرام وأنا على معرفة بالجواب؟ فنظر إلي، وبدت عليه ملامح الطيبة، قائلا: إنها مدينة كبيرة، بنيت بالقرب من الحرم ليسكنها الأمراء من العائلة المالكة كلما أرادوا النزول بمكة في رمضان أو لأداء المناسك. فقلت له ممازحا: ولم لا ينزل الملوك والأمراء إلى الصحن الشريف ويختلطون بالناس؟ فقال لي: أحيانا ينزلون ولكن بحراسة مشددة، ولا يسمح لنا نحن العساكر البسطاء حتى بالاقتراب منهم، مضيفا: وعندهم زوجات من عندكم كثيرات. فقلت: من الجزائر؟ قال: لا، بل مغربيات. فقلت: لا أظن آل سعود والجزائريين يتصاهرون. فقال ضاحكا: صحيح، أنتم رؤوسكم يابسة!