على مدار الساعة

للشعب دائما القول الفصل

29 سبتمبر, 2024 - 21:15

على هامش الفظائع المستمرّة للمأساة الفلسطينية، يظل أغلب الحكام العرب مُتَقوْقِعين في أبراجهم العاجية مُظهرين، على مرأى ومسمع من الجميع، نذالةً وخنوعا مشينا.

وبصرف النظر عن بعض التصريحات الظرفية التي يُقصد منها مجرد إبْراء الذمة، يبقى هؤلاء القادة في وضع المتفرّج العاجز أمام المجازر الوحشية التي تجري في فلسطين المحتلة.
ويكتفي الحكام العرب في تصريحاتهم بنبرة ليّنة مُهادنة تنمّ عن خشيتهم من كل ما قد يُربك مستقبلهم السياسي المضطرب، ويتفادون أي مبادرة من شأنها أن تعاكس المخططات الخبيثة لإسرائيل والولايات المتحدة في شبه المنطقة. ففي كل البلدان العربية تقريبا، تبدو الأولوية "لكرسي الحكم" وما يرتبط به من منافع جسيمة. وللحفاظ على هذه الامتيازات، يتعيّن التطبيق الصارم لقاعدتيْن: تجنّب الخلاف مع الخارج، وتضييق القبضة الأمنية على الداخل.

الهوَس الوحيد: التشبّث بالسلطة
يبدو أن أولئك الحكام يعيشون في عالم مواز للعالم الحقيقي. ومع ذلك، يتحتّم عليهم أن يراعوا معطى أساسيا ألا وهو كون نظامهم السياسي يظل، طال الزمن أو قصر، رهينا للرأي العام في بلدهم. والحال أن الغالبية العظمى من الشعوب العربية تساند الفلسطينيين. وهذا مؤشر حاسم في أية معادلة.
وعلى الرغم من ذلك، لا يقتصر الحكام العرب على التهاون في دعم القضية الفلسطينية، بل يتركون الحبل على الغارب لإسرائيل المتمادية في تهويد المسجد الأقصى الشريف.
وبغض النظر عن الخطاب الممْجوج الذي لم يعد يُقنع أحدا، من الواضح أنهم قد جعلوا القضية الفلسطينية في أدنى سلم أولوياتهم. ورغم وفرة مواردهم الطبيعية والمالية، ما تزال بلدانهم، من حيث الحداثة والرقي، تقبع في ذيل الموكب الأممي. والأمر الوحيد الذي يتفوّقون فيه هو تكميم أفواه شعوبهم وقمع كل محاولة للتمرد.
على خلفية الأحداث الأليمة التي تدور في غزة، نودّ هنا أن نعطي لمحة موجزة ومحزنة عما يجري في أغلب البلدان العربية لردع الخوف المُريع من تحرّكات الشارع العربي.

المُتَمَتْرسون في الملاجئ الأرضية
يعوّل القادة العرب المُتَمَتْرسون في الملاجئ الأرضية على الجيش وأجهزة الدولة لحمايتهم ولضمان استمرار حكمهم. ومع ذلك، فقد دلت التجارب على أنه لا الجيش ولا الأجهزة الأمنية بقادرة على تحصين الحكام من الانتفاضات الشعبية. وخير دليل على ذلك أن عناصر الجيش والأجهزة المذكورة ليسوا إلا مواطنين يدركون أن هناك خطوطا حمرا لا ينبغي تجاوزها. صحيح أنهم قد يقاومون الاحتجاجات لبعض الوقت، لكن الشعب هو من يخرج في النهاية منتصرا في هذه المجابهة.
وفي الغالب، يميل القادة العرب إلى عمل ما في وسعهم لتجنّب هذا المصير المحتوم. غير أن المنطق السليم والإدراك العاقل يقضيان بأن الأسلم هو اتقاء الوصول إلى هذه المرحلة التي تفضي إلى انتحار أكيد. ذلك أن المجابهة مع الشعب يكون الخاسر فيها دائما هو رئيس الدولة العنيد. فإذا لم يفر إلى الخارج – وهو ما أصبح عسيرا – فإنه إما أن يُسجن أو يقتل. وكثيرا ما يعتقل أفراد أسرته والمقربون منه كذلك ويحاكمون وتصادر أموالهم. كما أن لعناد رئيس الدولة الديكتاتور عواقب أخرى، أولاها شخصية وهي تشويه سمعته وكرامته في أعين الأجيال القادمة، وبطبيعة الحال تصادر "ثروته" التي كانت هي الدافع لتعنّته واندفاعه المستميت للبقاء في السلطة. أما العاقبة الثانية فهي الآثار المأساوية للانقلاب والمتمثلة في زهق الأرواح وتدمير الممتلكات لاسيما المنشآت والبنى التحتية. ويا له من هدر وضياع !
ومع ذلك، فبمقدور رئيس الدولة المستبد أن ينقذ حياته وثروته وحياة المقربين منه متى تخلى طوعا عن الحكم قبل فوات الأوان، بل إنه قد ينال تقدير الأمة وعرفانها بالجميل له.

الغضب الإلهي
لكنه قد يدفعه جنون العظمة إلى أن يخسر كل شيء! ولربما يكون هذا التعنت مظهرا من مظاهر الغضب الإلهي. فحبذا لو تدبّر الحكام العرب فحوى هذه الآيات القرآنية الكريمة: 
"كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين فما بكت عليهم السماوات والأرض وما كانوا منظرين".
إنها الخاتمة المريرة لأي حاكم فاسد.
تلك هي النتائج المشؤومة للتسيير المتهوّر للشأن العام على خلفية الاستبداد، والرشوة، والفساد.
إنها العاقبة المحزنة لنهب الموارد الطبيعية للبلدان العربية من قبل الغرب. فخيرات الوطن العربي ما تزال تنقل إلى الحواضر الاستعمارية كما كان عليه الحال في الماضي مع ما يخصمه محليا الوسطاء الأوفياء للمستعمر. والحصيلة على الصعيد الداخلي مدمّرة: تفقير، وعوز، وإملاق ...!
في ظل البطالة المزمنة، وتآكل القدرة الشرائية، وتصاعد غلاء الأسعار، بالإضافة إلى الشعور بالإحباط والمهانة، تسود الشارعَ العربي حالةٌ من الغليان. وتولّد هذه الأوضاع تناميَ التطرف الديني وتغذي فورات العنف.
فكيف نفسّر بقاء الرؤساء المسؤولين عن هذه الفوضى العارمة في السلطة على مدى عقود؟

ديمقراطية شكلية
ينبغي ألا أن نغتر بالمظاهر. فبصرف النظر عن الألفاظ والتعابير، لا مناص للمراقب مهما كان مجاملا، أن يقرّ بأن من المستحيل أن ننعت الأنظمة السياسية العربية بصفة "الديمقراطية". فالأنظمة العربية أبعد ما تكون عن الديمقراطية. بل يصح القول إنها مناقضة للديمقراطية.
النظام الديمقراطي بأبسط تعريفاته يقتضي، من بين أمور أخرى، وجود انتخابات نزيهة، وصحافة حرة، والأهم من ذلك تناوبا على السلطة بين الأغلبية والمعارضة. وهذا التناوب هو ما يمنع احتكار السلطة.
وهكذا، يحدد الدستور عادة في الديمقراطيات الغربية للرؤساء ورؤساء الحكومات المنتخبين مدة معيّنة لمأموريتهم.
ففي الولايات المتحدة الأمريكية مثلا لا يمكن للرئيس أن يبقى في السلطة إلا لعهدة من أربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة إن تمكن من إعادة انتخابه، وهو ما لا يحصل تلقائيا.
في الأنظمة العربية، تجرى الأمور بشكل مختلف. فمدة المأمورية – إن تم تحديدها – مجرد شكلية لأن الدستور لا يراد إلا للاستهلاك الخارجي. ولا يتم احترامه على الإطلاق.
في الواقع، لا يعدو الدستور أن يكون لعبة يتم التستر بها لممارسة كافة أشكال الانتهاكات. ذلك أن من يناط به تطبيقه واحترامه هو أول من ينتهكه، على حد قول المثل "حاميها حراميها".
فهو يحكم قبضته على الشعب، والطبقة السياسية، والعدالة، ورجال الأعمال، والشرطة، والجيش ... على الجميع أن يدين له بالولاء، لأنه يتحكم في كل شيء: التعيينات، منح الصفقات العمومية، ترقيات العسكريين والقضاة، كما أنه يزجّ في السجن من يشاء. وهو من يحتل الواجهة ويتلقى التشريفات والأموال، ويسيطر على الإدارات والمناطق الترابية، ويستأثر بالسياسة الخارجية ...
وبطبيعة الحال، يدفع هذا الهوس بالسلطة رئيسَ الدولة على أن يعدّل تصريحا أو ضمنا قواعد اللعبة المقررة في الدستور بنيّة مبيّتة للحكم مدى الحياة. وفي حالة حادث عرضي، يكون الابن أو الأخ أو القريب على أهبة الاستعداد للحلول محله. وعندئذ تصبح الجمهوريات من حيث انتقال السلطة فيها ممالك حقيقية.
ولا يخفى أننا هنا بدل نظام فصل السلطات الذي يُفترض أن يحدّ من سلطات الرئيس، نوجد في خضمّ غطاء رصاصي يسحق الجميع. وقد لخص المؤرخ عبد الله العروي هذا الوضع جيدا بقوله: "لئن كان النظام العربي قليل الفكر فهو مفتول العضلات".

 

موسى حرمة الله
أستاذ جامعي
حائز على جائزة شنقيط