على مدار الساعة

الديوان الوطني الجزائري للحج والعمرة: خدمة عامة أم استثمار؟  (1/2)

4 أكتوبر, 2024 - 16:36
بقلم: عز الدين مصطفى جلولي - كاتب وأستاذ جامعي جزائري

نموذج آخر لتدخل الدولة الحديثة في تفاصيل الحياة اليومية للناس، تدخل يفقد الفرد في الدولة القدرة على تدبير شؤونه بحرية واستقلال. وليت السلطة الحديثة كانت أمينة كما يلزم ورافقت رعاياها من أجل حمايتهم من المخاطر المتوقعة، وتوجيههم نحو أفضل السبل لتحقق الغاية التي يرجونها من أعمالهم، كي لا تضيع أموال الناس هدرا أو تقضى أعمارهم فيما لا طائل فيه، والمال والأعمار هما من أنفس ما يملك ابن آدم في الحياة الدنيا. إن ذلك الواجب منوط بولاة الأمر في هذا الزمان لقاء الطاعة التي ينشدونها في الرعية، ولهذا المبدأ المهم تطبيقات متنوعة على حياة الإنسان المعاصر، كل بحسب النشاط الذي يزاوله. وقد كان للديوان الوطني للحج والعمرة، التابع لوزارة الشؤون الدينية بالجزائر، أعمال هو بها زعيم، وأخرى لم يتكفل بها وهي من مهامه، وثالثة لا يليق به أن يفعلها، وقد أؤتمن على القيام بما هو أرفق بالحجاج الميامين، القاصدين رحاب البلد الأمين، والزائرين رسوله الكريم (صلى الله عليه وسلم) وروضه المعطّر الشريف.

 

 

بين ما هو كائن وما يجب أن يكون

عندما يحسن الموظف أحكام الشرع ويصبح ربان الطائرة يدرك الميقات ويذكر المسافرين بالإحرام، ويدعو دعاء السفر، والمرشدات المرافقات للنسوة المحرمات يدبرن شؤونهن ويعلمنهن المناسك - فهذا كله من صلاح المجتمع. وعندما تكون الطائرة ملأى بالحجاج الملبين، ولا يجد الركاب مكانا يتوضؤون فيه ومساحة يقيمون عليها الصلاة، وتطوف عليهم مضيفات متبرجات، يرفلن بأثواب رجالية ببن الصفوف، تميس إحداهن عندما تمشي، فتلمس بخصرها عضد هذا، وتفتن المحرمين بحركات رأسها السافر حين تلتفت على عجل، فيتبع هامتها خصلات شعر مرسل لتغطي وجهها ثم يعود سريعا إلى التدلي - فذلك فساد أخلاقي تنظمه القوانين في جو السماء.

 

طبعا لم يك هنالك دفتر شروط بين الحكومة الجزائرية وبين شركة "بوينغ" و"آر باص" المصنعة للطائرات المستوردة بمال الشعب، والموضوعة ليس تحت تصرفه بل للمتاجرة بها معه بأغلى ما تكون الأسعار. شروط كان من المفترض على قيادة مسلمة أن تلزم بها من يصنع الطائرة بتصميم ميضأة ومكان خاص تؤدى فيه الصلاة بداخلها، ومرد ذلك الإغفال ليس ممن سيستقل الطائرة من الركاب المسلمين، بل مرجعه للنظام السياسي الحاكم في الجزائر، والذي لا شأن له بهذه القضايا.

 

من مظاهر الفساد في تنظيم الحج والعمرة

يتباهى كثير من المسلمين بعدد العمرات والحجات التي قام بها، من دون التحفظ على تلك الأعمال وسؤال المولى تعالى القبول، فرب حجة غير مبرورة، ورب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش. قد يكون وراء ذكر الأعمال الخيرة على الملأ شيء من البحث عن الوجاهة والشهرة والتفاخر، ولو أننا استذكرنا كيف أهلّ النبي (عليه الصلاة والسلام) في حجه الوداع على رحل رث وفرش من قطيفة لا تساوي، قائلا: "اللهم لبيك حجة لا سمعة فيها ولا رياء"، لارعوى هؤلاء عن ذكر الحج للناس ومراته. ثم من أين لهؤلاء بفرص الحج المتكررة وهو لا ينال إلا بقرعة لا يزال ينتظر النجاح فيها لأعوام مئات الآلاف من الجزائريين والملايين من حول العالم؟

 

ولقد نشرت صحيفة "الشروق اليومي" في 19/06/2024م تقريرا مهما، مثبتا بصور وفيديوهات عن الأوضاع المزرية للحجاج الجزائريين، وبعد ساعات من نشره سحب التقرير، واستبدل بمواعيد الحج للعام القادم! ولقد كان واقع الحال المتردي للبعثة الجزائرية بالبقاع المقدسة كاف لإقالة وزير الشؤون الدينية والمشرفين على الديوان الوطني للحج والعمرة، بل ومحاكمة المقصرين والمتسببين في هذه الكارثة. ولكن الأمور مضت على وجه آخر كانت تريده السلطات السعودية والجزائرية معا، ولو كان في ذلك العمل غش وزور وظلم في حق من تركوا لمصير أودى بحياة الكثير من الأبرياء؛ فتوّجت السعودية الجزائر بعد أيام قليلة من سحب التقرير بجائزة "لبيتم" للتميز في تأطير الحج لهذا العام! وتناول الجائزة وزير الشؤون الدينية في احتفاء رسمي، قال عنها السيد الوزير إنها إنجاز كبير لبلاده! إذن هذه هي القيادة التي تقوم على خدمة الحرمين الشريفين، وهذه هي وزارة الشؤون الدينية الراعية للديوان، وهذه هي أعمالها التي رآها الله ورسوله والمؤمنون.

 

ثلاثة أسباب وراء الإخفاق في تنظيم الحج

إن تنظيم بعثة بعشرات الآلاف من الحجاج ليبدو أمرا هينا على دولة، لها من الإمكانيات ما تدعي به أنها قوة ضاربة بين الأمم. بيد أنه في تحليل الإخفاقات المتوالية كل سنة ما يبعث على القول بأن مثل هذه الأعمال السلطانية يشوبها عوار في بنيتها العميقة، عوار ذو ثلاث شعب؛ مرجع أحدها إلى طبيعة الحكم السائد في البلد، حكم لا يلقي بالا إلى أن إقامة الشعائر التعبدية، خاصة أركان الإسلام منها، منوط حفظها بالسلطة الحاكمة، لأن شرعية الولاية مستمدة أصلا من خلافة صاحب الشرع، المصطفى (صلى لله عليه وسلم)، فيما نزل به وكلف القيام به، والدولة الحديثة عندنا - بهذا الخصوص - لا هي في العير ولا في النفير، ما يفضي لاحقا إلى بوار خطط العمل في كل مجال تقوم به بما في ذلك تنظيم بعثات الحج والعمرة.

 

وثاني الثلاثة، يعود بنا إلى الحديث عن طبيعة الجمهور المسلم المراد تنظيمه، فهو يتحمل قسطا من الفشل لا بأس به، وإن كان أقل خطرا من مسؤولية السلطة في ذلك الشأن؛ فشعبنا مسلم بطبيعته، الإيمان بالله راسخ في قلبه أشد من رسوخ الجبال الرواسي، لكن طباعه في الحراك الجمعي تتسم بالفوضى وقلة الانتظام، لا لشيء في طبيعته لا سمح الله، أو خلل ما في تكوينه، بل لأنه شعب من مخرجات تلكم الأنظمة السياسية، التي لم تنشئه تنشئة مدنية لها قواعدها الناظمة وضوابطها السلوكية. السلطة القائمة في الجزائر لم تفلح في حمل شعبها على هذا لأنها هي نفسها تفتقد إليه، بل إنها لتعتاش على الفوضى، خدمة لمصالحها الذاتية ومصالح الأجنبي الذي توالي.

 

أما ثالث تلكم الشعب فيتعلق بالسلطة والشعب معا، فهما كمجتمع يعيش على قطعة أرض محظية بخيرات حسان لا يعلم مقدارها إلا من خلق، لم يرتق هذا المجتمع سلم الدورة الحضارية بعد، كما ترتقيه أمم تعاصرنا اليوم كالصين الشعبية، وكما ارتقته سالفا أمم من الدول الغربية، وهي تمضي فيه إلى نهايته على ما يظهر من حالها الآفل اليوم، أفول بيّن لكل من خبر معنى القيام والأفول في حياة الدول والشعوب. ولمن يظن من الحكام ألا خصوصية ثقافية لهذه الدورة مطلقا ومضى بقومه على درب التبعية والتقليد فقد أخطأ خطأ فادحا، وحمل شعبه على رأي فيه هواه أضاع به الطريق، أو أضله الله تعالى عن سواء السبيل.

 

ما يعنيه النجاح في تنظيم الحج

على السلطة أن ترافق الجزائريين من أول ما تبدأ رحلة الحج إلى أن تنتهي بسلام. إن السلطة الحقيقة تعمل على جمع غنائم من النفوس الخيرة، تجعل لها عند الله سبحانه وجاهة، فكلما قصدت بابه توسلت إليه بهم، وكلما استسقته الغمام دعت الله ببركتهم، وإنها لتنشر الفضيلة بين مجتمعها كلما ازدادت رعيتها طاعة لله وصلاحا.

 

يقال "زر غبا تزدد حبا"، لا أقصد بهذا المثل أن تملّك المشاعر المقدسة وساكنها (عليه الصلاة والسلام) إن أنت أكثرت التردد عليهم فأطلت المقام، بل أقصد أن لا تمل أنت المكان الطاهر من طول المكوث. لذلك فإن إجبار الحاج على الإقامة شهرا كاملا في البقاع المقدسة وإلزامه دفع التكلفة مسبقا فذلك غبن كبير واقع عليه؛ وبيان ذلك، أن الحد الأدنى من الإقامة لأداء الحج هو ستة أيام، فيحسن برمجة القاصدين بيت الله الحرام أسبوعا قبلها وآخر بعدها، يفرق الحجاج فيهما بين المدينة المنورة ومكة المكرمة بالتناوب، ما يعني أن عشرين يوما مدة كافية لأداء الشعيرة والزيارة كأجل أوسط للبعثات القادمة من بعيد كحال الجزائريين؛ إذن، على السلطة تقديم ثلاثة خيارات للحجاج، عشرين يوما وخمسا وعشرين وثلاثين، فيختار كل شخص ما يناسبه، مع لحاظ اختلاف التكلفة باختلاف الأيام. وفي ذلكم تخفيف من أعباء الفريضة على الحجاج الميامين.