على مدار الساعة

ربيئة الإبراهيمية بين أظهرنا

13 أكتوبر, 2024 - 15:23
بقلم: عز الدين مصطفى جلولي - كاتب وأستاذ جامعي جزائري

كلمات مضللة

يتداول الشباب "المغرر به"، أقصد الذين لديهم عاطفة دينية ولكنهم لا يملكون الثقافة الشرعية العميقة التي بها يميزون، بأن الشخص الفلاني زكاه علماء الحجاز، أو أنه درس أو يدرس العلوم الإسلامية، أو أنه على منهاج السلف الصالح، أو أنه أعلم علماء ذلك البلد... أو غير ذلك من الأوصاف التي يلقونها عليه، كيما يبرروا لأنفسهم ولمن يستمع إليهم صحة منهجهم وما هم عليه من سلوك شاذ ينكره المجتمع ولا يتأسى به.

 

وليس خافيا على ذوي البصائر ذلكم الخيط الناظم للعلاقة بين هؤلاء الأتباع وبين هذا القائد الذي يزكون وبين من دفع به إلى العمل في هذا البلد أو ذاك، أي علماء الحجاز، الذين يعملون في البلاط الملكي. إنه لا توجد دولة في الخارطة السياسية تسمى بالحجاز، سوى ما ترمز إليه الكلمة من جبال تقع في شبه الجزيرة العربية. ومدلول الكلمة في مخيالهم يشي إلى المملكة العربية السعودية وإلى دولة الإمارات العربية، اللتين تستخدمان تيارا خاصا بغية التشكيك في الموروث الديني لدول بعينها، استقرت شعوبها على طريقة صحيحة في التعبد محصتها أجيال من العلماء الفطاحل منذ الفتح الإسلامي وعبر ألف وأربعمائة عام ويزيد.

 

إن مخابرات هاتين الدواتين تعملان بخبث من أجل خلخلة الثوابت الدينية والوطنية لتلكم المجتمعات بأسلوب مخادع ينطلي على أهلها، وليس معول أنسب من ادعاء السنة ووسم عمل الآخر بالبدعة. في مقاربة جاهلة جهلا محضا بعلم أصول الفقه وقواعد مصطلح الحديث وعلم مقاصد الشريعة وضوابط الموازنة والترجيح، وغيرها من معارف لا بد منها للفقه في الدين.

 

إن تلكم الفوضى التي بريدها أعداء الملة "خلاقة" تخدم أجندة سياسية لها علاقة بصفقة القرن، وبالديانة الإبراهيمية، التي ابتدعها أحبار اليهود والنصارى، ووجدوا في القيادتين السعودية والإماراتية الحاليتين استعدادا متحمسا لتنفيذ هذا المشروع، وعلى لسان ابن سلمان نفسه، حينما قال لهم: "اعطونا ما نريد نعطيكم ما تريدون"، وما يريده ولي العهد أن ينصب ملكا على بلده، وألا تتخلى قوى الغرب عن حماية المملكة، ولا ننسى كسر شوكة الغرماء من دعاة الإصلاح السياسي ومن الإيرانيين وحلفائهم.

 

وما يريدونه هم إضافة لما ذكر، أن تقبل شعوب المنطقة بعد برهمتها بوجود إسرائيل الكبرى، دولة يعيش فيها شعب الله المختار، تكون حاكمة مسيطرة، وتكون بقية الشعوب خاضعة مستحمرة.

 

إنه مشروع ثقافي خبيث لاستعمار جديد يريد أن يبتلع بلاد المسلمين.

 

الفرقة أكبر من القتل

بث الاختلاف بين المسلمين أثناء التحام الصفوف مظنة الانكسار وشبهة تلاحق أصحابها. وما يجري حاليا في قلب العالم الإسلامي من قتال بين الحق والباطل اختبار حقيقي لكل من ينتمي إلى هذه الأمة.

 

في مطلع سورة البقرة حديث عن ثلاثة أصناف من الناس، المؤمنون، والكافرون، والمنافقون. وفي معارك المسلمين عبر التاريخ يتجلى الصنفان الأولان وينطلي الصنف الثالث عن الناس؛ لأنه صنف يتموقع بين المسلمين ولكنه يناصر الكافرين، فكان أشد الأصناف على الأمة، ولذلكم طال الحديث عنه في مطلع هذه السورة الكريمة.

 

فليتق المسلم شر نفسه وشر الشيطان وشر الصهاينة الذين ليسوا من السذاجة ألا يدفعوا بأناس يخترقون الصفوف ويبثون الوهن بين المجاهدين في معركة لا غبار عليها.

 

إن قوة الأمة وعنفوانها رهين بالوحدة بين أبنائها، وعلى الشباب المسلم أن يقلع عما هو عليه من سفاسف الأمور، وليفكر جديا في طرائق مبتكرة يساهم بها في هذه الحرب المقدسة، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.

 

التشتت والاختلاف يورث الضعف ويقوي الأعداء، ولا ينفع البكاء والعويل على المصائب التي ستتنزل ساعتذاك. الوحدة الإسلامية فريضة شرعية ومقصد آخر من مقاصد الشرع الحنيف لا يقل أهمية عن المقاصد الخمسة أو الستة المعروفة. ثم يأتي الحديث عن العدة العسكرية بعد ذلك، وليس قبل ذلك كما يعتقد قادة عسكريون وسياسيون في الأمة. طريق الأنبياء هو طريق وحيد معلوم، وعلى دربه يمينا وشمالا رؤوس شيطانية من الجن والإنس، ينادون على ركب المؤمنين ليسلكوا مسالكهم الهالكة.

 

دول تصنع هذه السبل للصد عن الصراط القويم، لم يكن أولها الديانة الإبراهيمية ولا الطريقة الأحمدية، ولا البهائية ولا القاديانية... في كل آن وحين يبتدع المبتدعون طرقا جديدة بمثابرة وجد، ينصب على رأسها جهلة مغرورون عليمو اللسان يجادلون بالقرآن، كل همهم زعزعة ما استقر من مذاهب عقدية وفقهية في مجتمعات محافظة سنية، سعدت بشعائرها وأعرافها وعباداتها قرونا مديدة، زعزعتها بآراء خلافية ضعيفة، أو بجزئيات طفيفة تركت أو نسخت أو لا يضر المسلم جهلها.

 

وفي الحديث الصحيح الذي رواه النسائي وأحمد عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: "خطَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ خطًّا بيدِه ثم قال: هذا سبيلُ اللهِ مستقيمًا، وخطَّ خطوطًا عن يمينِه وشمالِه، ثم قال: هذه السبلُ ليس منها سبيلٌ إلا عليه شيطانٌ يدعو إليه، ثم قرأ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكم عَنْ سَبِيلِهِ".

 

مبشرات بالنصر

ليس على إطلاقه ما يشاع في الناس بأن إثارة الفوضى وإشعال الحروب في العالم أسهل طريق للمستعمر كيما يتحكم في البلدان، قد يحصل لهؤلاء بعض ما يريدون ولكن ليس كل ما يريدون. يلقي الناس اللوم على الدول المستكبرة في مآل أوضاعهم السيئة، وكأنهم عجزة لا صلاح لأمرهم إلا بغيرهم. إنه في كل الظروف التي تمر بها الأمة، عسيرها ويسيرها، يلقى إلينا المصطفى (صلى الله عليه وسلم) بحبال نصح وإرشاد، تعصم أتباعه في شتى الملمّات وتنقذهم من كل المهلكات؛ رحمة منه بأمته، وحرصا منه على سعادتها وسلامة مستقبلها. بأبي أنت وأمي يا سول الله!

 

ومما نجد في كنوز السيرة النبوية المشرفة، مما يتداوله الناس ولا يطبقونه كما يلزم، الحديث الصحيح المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "إنَّ الشيطانَ قد يَئِسَ أن يُعبَدَ بأرضِكم، ولكن رضِيَ أن يُطاعَ فيما سِوى ذلك مما تُحاقِرون من أعمالِكم، فاحْذَروا".

 

ليس المراد بالحديث تلكم الصورة النمطية التي تتداعى إلى الخيال، حينما تذكر السنة النبوية، عن أناس يدعون السير على نهج السلف وحدهم خلافا لغيرهم، فليست صورتهم تلك موحية بالفهم العميق لنص الحديث ولا لحسن تطبيقه. نجد في التاريخ ماضيه وحاضره نماذج أكثر وعيا وأنضر صورة قد يتخيلها الإنسان لاتباع هذا الحديث المكتنز علما. ولست في معرض توجيه أحد من الناس إلى وجهة خاصة بعينها، ولكني راغب في أن يبحث كل على حدة، عن نماذج رائعة تقتفي آثار النبي (صلى الله عليه وسلم) بصمت وسمت، لا تزال متحلية بالمعاني العميقة للحديث السالف الذكر بلا شعار ترفعه، تجدها في كل بقاع الأرض، وفي كل ميادين الحياة.

 

لست أدري كيف يستطيع بعض أئمة الحرمين الشريفين الجمع في قنوت واحد بين الدعاء لغزة بالنصر وبين حفظ ولي الأمر وصون حدود المملكة، في محراب كان يقف فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وتركه أمانة لمن يخلفه من بعده!؟ وأئمة الحرمين يدركون يقينا بأن شريان الحياة للاقتصاد الصهيوني أصبح يمر من موانئ الإمارات وعبر الأراضي السعودية والأردن ليصل إلى الاحتلال في فلسطين؟ اللهم إلا إذا كان قد رضي هؤلاء من الباطل بنصيب وافر، يوفر لهم مكانة عند الظالمين. وفي ذلكم بلاء من ربهم عظيم.

 

من بشائر الخير للمؤمنين بالله تعالى أن يكيد المستكبرون في الخارج، بمعية أذنابهم التابعين في الداخل، للإسلام؛ إنهم سيواجهون الذات الإلهية في معركة خاسرة لا محالة. وفي سورة الفيل عبرة لمن يريد أن يعتبر.

 

كان عبد المطلب، جد المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، سيدا في قومه، ذهب إلى أبرهة الحبشي يسترد إبله منه لما غزا مكة، من دون أن يكلمه في شأن الكعبة، فتعجب أبرهة وسأله: "أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئتُ لهدمه لا تكلمني فيه؟!" فقال عبد المطلب، بحكمة القائد الواثق، "إني أنا رب الإبل وإن للبيت رباً سيمنعه".

 

يتكرر مشهد الصراع بين الحق والباطل، في كل عصر ومصر، بأشكال مختلفة، وتبقى العاقبة دائما واحدة. ويقف الناس من ذلك الموقف مذاهب شتى؛ فمنهم من ينصر الحق، ومنهم المحايد، ومنهم غفّل رضوا بأن يكونوا بيادق في ركب أبرهة الحبشي. ولله في خلقه غرائب وعجائب!