يحيى السنوار جسد بحياته ومماته صورة مقولة:
"فإمّا حياة تسرّ الصديق * * * وإمّا مماتٌ يغيظ العدى"
نشأ فتى مجاهدا، وتم اعتقاله ليقضي عقدين من حياته أسيرا لدى العدو ويخرج من أسره أشد صلابة وعزما على مواصلة مسيرة الكفاح ليقود وحدات التحرير، وختم مسيرته بهندسة طوفان الأقصى ليجرف بالاحتلال وداعميه؛ وساق الله إليه الشهادة. وهو يجمع بين القيادة السياسية والميدانية؛ فكان استشهاده وهو يقاوم مقبلا غير مدبر إلى الرمق الأخير؛ وهو جريح وربط جرحه بسلك ليستمر مع تلك الحالة ويرمي القنابل على الجنود الذين دخلوا عليه المبنى؛ ولم يبق معه سوى العصا وأراد إسقاط المسيرة بها.
هذا المشهد الأسطوري الأخير من حياته يذكرنا بموقف جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - وهو يقاتل حاملا الراية حتى قطعت يديه ثم احتضنها بعضديه حتى استشهد؛ وقال عليه الصلاة والسلام «أبدله الله جناحين يطير بهما في الجنة» ولذلك سمي بالطيار.
وهذه هي الوفاة التي تمناها خالد بن الوليد - رضي الله عنه - حين حضرته الوفاة وقد شهد حوالي مائة معركة ولكن قدر الله في سابق علمه أن لا يغمد سيف الله إلا الله عند وفاء أجله.
وقد نال يحيى السنوار أمنيته وقد جاوز الستين وهي أعمار هذه الأمة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك".
وبثبات الثائر السنوار إلى آخر رمق؛ طمس جميع أكاذيب العدو بأنه جبان ويتخذ من الأسرى والمدنيين دروعا بشرية، ولكن بما أن أعداء شهيدنا البطل جبناء رعاديد ظنوا بأن الرجل كذلك "ولا يرشح القدح إلا بما فيه".
فأشاد نشطاء الغرب بشجاعته ودحض الرواية الصهيونية التي طالما قصفت المستشفيات والمدارس والأماكن العامة بحجة احتوائها على عناصر من المقاومة.
فقد كرس حياته كلها لمبدأ تحرير أرضه الطاهرة من المحتل الغاصب فكان شعلة لثوار العالم ومناهضي الاحتلال.
ثم يأتي بعض منهزمي النفس ليشمت باستشهاده إرضاء لأسياده من المحتل وداعميه؛ وهؤلاء عار على الأمة الإسلامية والقومية العربية والإنسانية جمعاء.
عار على الأمة الإسلامية لنقضهم عرى الإيمان بتخليهم عن عقيدة الولاء والبراء في الله، ولذلك لا يستشعرون الأخوة الدينية التي أرشد إليها الله ورسوله عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى {إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةࣱ} وقوله عليه الصلاة والسلام "المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره".
وهم كذلك عار على القومية العربية والحمية الجاهلية؛ لا يمكن لعربي حر أن يرى أشلاء الأطفال والنساء العربيات ولا تتحرك في النخوة والشهامة لقومه وأهله؛ فيقاتل ليقال عنه مقدام وحامي الديار وكان أحدهم يقول:
إنّا لمنْ معشرٍ أفنى أوائلهــــمْ *** قـــــول الكماةِ ألا أين المحامونا
وهم عار الإنسانية كذلك بينما يندد طلبة الغرب ونشطائه حتى من اليهود بجرائم الاحتلال الفظيعة تجاه الأطفال والنساء بغزة من باب الإنسانية هؤلاء يطبلون لقاتل أقاربهم ويختلقون لهم المعاذير الكاذبة.
طوفان الأقصى بداية النهاية التي أكرم الله يحيى السنوار بتسطيرها ليتأتى للآخرين تتمة ما بدأه، وكان استشهاده أكبر حافز على تلك التتمة.
قضية تحرير الأقصى المبارك قضية أمة والله يصطفي من يشاء لتحريرها والدفاع عنها ولا شك أنها منصورة محررة بإذن الله ولكنه ابتلاء وتمحيص حتى يتم ذلك على أيدي المخلصين من هذه الأمة الذين لا يضرهم من خذلهم إلى يوم القيامة.
نعزي الأمة الإسلامية جمعاء في استشهاد القائد يحيى السنوار ونخص أهلنا وذويه بغزة الجريحة؛ وعزاؤنا فيه أنه شهيد بإذن الله وحي يرزق عند ربه كما أخبرنا عز وجل {وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِینَ قُتِلُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ أَمۡوَ ٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡیَاۤءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ یُرۡزَقُونَ فَرِحِینَ بِمَاۤ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَیَسۡتَبۡشِرُونَ بِٱلَّذِینَ لَمۡ یَلۡحَقُوا۟ بِهِم مِّنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ}.
وعزاؤنا فيه كذلك أن ما بدأه سوف يستكمله إخوانه بالمقاومة؛ كما قطع هو ورفاقه شوطا كبيرا بعد شيخهم وإمامهم أحمد ياسين رحمه الله؛ ومن يظن أن قضايا الأمة تموت بموت القادة فهو واهم؛ بل دماء الشهداء الأبرار تزيد من نكاية الثوار الأحرار بمواجهة جيوش الفجار.
ونعزي الأمة الإسلامية والقومية العربية في غيابها عن المشهد العالمي بسبب جبنهم وطمعهم في الدنيا الزائلة كما قال صلى الله عليه وآله وسلم "يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت".
النصر قادم لا محالة ولكن علينا الأخذ بالأسباب المادية والمعنوية وعدم الإصغاء للشامتين والمتخاذلين.
اللهم انصر إخواننا بغزة وجميع الأراضي الفلسطينية المحتلة والله نسأل أن ينصر المسلمين المستضعفين في كل مكان ويزيل عنهم الغمة ويفرج عنهم الكربة؛ ويرحم موتاهم ويفك أسراهم؛ ويبدل خوفهم أمنا وضعفهم قوة.