على مدار الساعة

الثقوب السوداء في الحياة اللبنانية

19 أكتوبر, 2024 - 13:43
بقلم: عز الدين مصطفى جلولي - كاتب وأستاذ جامعي جزائري

ليس هذا تشفيا، معاذ الله! فاللبنانيون أهلنا وأحبتنا، ولن نرضى لأحد في العالم أن يتطاول عليهم أو يؤذيهم، فما يسوؤهم يسوؤنا، وما يؤلمهم يؤلمنا، ولكنها ذكرى لهم لعلهم يتذكرون. فما تصريف ربك العقاب للناس بلا غاية، بل إنه ليؤخذ عباده بالعذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون. فأي الخليقتين جنت على اللبنانيين: حبهم الجم للحياة كما يفاخرون، أم طبعهم غير المتدين كما يقول عنهم المرحوم محمد حسين فضل الله؟ هذا شأنهم في الأغلب الأعم، ولكل قاعدة استثناء، استثناء لا يغير انطباع من خبرهم عن قرب على كل حال من الأحوال.

 

بلاد المصارف الربوية والجامعات العلمانية والسياحة المتفلتة من عقالها كثيرا، والتجارة الحرة التي تقهر القانع والمعتر، والمستشفيات الربحية التي يحكم فيها الدولار حياة المستضعفين من الناس...كيف آل ذلك البلد إلى طلل باك، يندب حظه العاثر ويستجدي بكبرياء مجروح العالم شرقا وغربا، والجميع متردد في نجدته، لعلمهم بأن لبنان ثقب أسود، لا ينفع في عونه شيء.

 

هكذا ولد لبنان، خطأ تاريخيا، كما يتندر السوريون، اقتطع من محيطه دولة مستقلة ذات سيادة، بلا مقومات تصمد لقيامه بذاته رغم ما ينفخ فيه من وطنية لا ينحني فيها لغير بارئها الجبين. ولفرط ما تمدن وأوغل في العالم بظاهرة الهجرة، أبى كبرياؤه ذلك أن يقارب الشقيقة سورية، القابعة تحت استبداد قهري، أفقدها شيئا من عقلها أو كاد.

 

كل ما مر على لبنان من سعة وضيق لم يجعل أهله يتنبهون من غفوتهم، فمن سويسرا العرب إلى حرب أهلية مدمرة، فقيامة من تحت الردم مغللا بديون فتنت طبع ساسته الشره، وأعمى كفرهم بالله، الذي حرم في كتابه الكريم الربا، بصائرهم، ثم إلى حرب عسكرية في الجنوب سُوّقت مقاومة للتحرير وصد العدوان، لم تبد الأيام سوى أنها كانت مقامرة للإطباق على المنطقة. ولم يستفق اللبنانيون، الشطار في عالم المال والأعمال، إلا على وطن يترنح على وقع زلزال هز أركان الدولة هزا شديدا.

 

حب العيش أعبد كل حر، ودفع باللبنانيين إلى أكل المرار، وهم الذين لا تلوى أعنتهم إذا رحت تحدثهم عن البساطة في العيش، والزهد في الحياة الفانية من أجل الباقية؛ حتى أمرضهم داء المظاهر، وتبسطوا في الحياة تبسط ساستهم في الاقتراض، وفي الحالين لا موارد للإنفاق أو للرد، غير مزيد من الاقتراض ومزيد من التبذير والهدر، في ظاهرة اجتماعية قل نظيرها، فيها ينخسف الإنسان طواعية إلى أمل موهوم، غير مبال بواقعه المأزوم {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إن أخذه أليم شديد}.

 

لبنان الجمال الأخاذ، والفتنة التي تسربت إلى بيوتات المسلمين عبر الإعلام، جنى ثمرة فعاله؛ فتعزب شبابه، وتعنست إماؤه، وهجر دياره أناسه، هائمين على وجوههم لطلب الحياة، في سعي جديد لا يأبه إلى الأقدار كيف انتصفت منهم، وهم الذين قد بلغهم العلم بأن الله سائلهم، لا محالة، عن كل صغيرة وكبيرة. فأين المفر؟

 

ما بال ساستهم اليوم لا يدقون باب الله تعالى كي يدفع عنهم ما أصابهم وينصرهم على عدوهم، بل تراهم، أكثر ما تراهم، مهرولين يدقون أبواب الدول الكبرى بلا حياء، ومنها الولايات المتحدة الأمريكية، يستجدون منها الأمان للبنان، وهم يعلمون أن أس البلاء تأتى منها، وأن الحمم التي تدك بيوتهم ومدنهم وتقتل شعبهم تصنّع في مصانعها وتدفع للصهاينة يلقوها عليهم بلا رحمة، التزاما من هذه الدولة المتجبرة بحماية الكيان الإسرائيلي الذي احتضنته ودعمته وذادت عنه في كل آن وحين، إنهم يعلنون ذلك مجاهرين صلفا وتبجحا.

 

كيف بذاك الجهاد أضحى خبرا، وكيف دجّل المقاومون على الناس وليس على الله، حين رفعوا راية القتال ضد العدو الصهيوني أول مرة، ثم أعملوا سيوفهم بعد ذلك في رقاب المسلمين بلا رحمة. هل نسينا سورية والعراق واليمن والسابع من أيار؟ كلا ما نسينا.

 

لقد رضي اللبنانيون بطوق الطائفية وتدثروا بجلبابها حماية لمصالح دنيوية، ولم يعبؤوا بالإسلام حين دعاهم إلى نبذ الطائفية والاندماج في الأمة الإسلامية، أمة رحيمة تحوط ديارهم من كل جانب. وها هم اليوم في الأخير، بخلاف أمسهم القريب، ترنو أعينهم إلى أمتهم ويمدون إليها يدا.

 

ما أكثر ما تفتن الكلمات الرنانة من يسمعها، ولا يفتأ اللبنانيون يرددون أو يصدقون ما يسمعون حين يثني أحدهم على لبنان ماضيه، ثناء أكثره مجاملة لا صدق فيها، ولم نسمع من أحد يقرع أسماعهم بما فيه صلاحهم وفلاحهم، وشطر ساكنة لبنان من المؤمنين الغافين، وشطره الآخر تلفيه عن الآخرة من المعرضين؛ وبين وعود الدول المستكبرة للبنان بالعون والإقراض، وبين وعد الله تعالى لمن آمن به واتقى بالفرج والنصر القريب، يقف اللبنانيون بين الوعدين في اختبار إلاهي جديد، فإما النجاة وإما المزيد من المعاناة {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون}.