على مدار الساعة

من المعاني السامية للحج والعمرة

22 أكتوبر, 2024 - 19:17
بقلم: عز الدين مصطفى جلولي - كاتب وأستاذ جامعي جزائري

إنه الركن الخامس للإسلام، تكفي الاستطاعة بمفهومها الشامل لتقع الفرضية العينية فورا أو على التراخي. الحج ليس عبادة شعائرية بحتة تلزم صاحبها بمجرد أن آمن بالإسلام دينا كما في الصلاة والصوم، لذلك نجد الحج أشبه الزكاة في الأبعاد الاجتماعية، وازداد الحج عليها بأبعاد أخرى سياسية. إنه ليس من الحكمة في شيء أن تتولى الجهات الرسمية تنظيم بعثاتها من الحجاج من أجل غاية وحيدة هي أداء المناسك فحسب ثم الأوبة سريعا إلى أرض الوطن، شاكرين ولاة الأمر على ما بذلوا من جهد ورعاية سامية، من دون أن تتخذ السلطات موسم الحج عينة ممثلة لقياس وعي الأمة وسبرا لخياراتها المصيرية.

 

غزة في خطب الجمعة بالحرمين الشريفين

لا تشعرن وأنت في موسم الحج هذا العام بالحماسة الجهادية التي تلهب مشاعر المسلمين في العالم قاطبة وهم يتابعون باهتمام بالغ أطوار النزال الذي تدور رحاه في بطحاء غزة. الشباب السعودي بشكل عام مدجن الاهتمامات بسبب السياسة التي لا تريد له أن يرى إلا ما يراه السادة. لقد عمل هؤلاء السادة على تطويع الشباب كي لا يتحرر من قبضتهم في يوم ما تنكس فيه الأعلام. ولقد حصدوا لهذا العهد جانبا من محصولهم الاستراتيجي لما لم يهب أحد لقول "لا" لمن سمح بمرور البضائع الصهيونية من جزيرة العرب إلى فلسطين نجدة للمحتلين الصهاينة، بعد أن تعسر عليهم عبور البحر الأحمر من مضيق باب المندب، خوفا من أن تطوله أيد أرسلت عليهم جزاء بما اقترفوه في حق الفلسطينيين.

 

ولقد كنت ناقشت شابا سعوديا يعمل في "شركة إكرام الضيف للسياحة" كان يدق أبواب الغرف في الفنادق ليسلم الحجاج تصاريح الحج، قائلا لي: "لا بد من حمل هذه البطاقة لأنها تعمل بالذكاء الاصطناعي"، فقلت له: "الذكاء الاصطناعي الذي يقصف به اليمنيون "إيلات" في الأراضي الفلسطينية المحتلة هو الذكاء الحقيقي". توجس مني الرجل خيفة، ثم سألته: "ما بال الشباب السعودي لا يستغل موسم الحج ليرفع من وعي الأمة بمصالحها العليا، والوقوف في وجه من يمرر الاقتصاد الصهيوني من أراضي المملكة"؟ فقال: "إن أولياء الأمور أدرى بأمور السياسة التي تحمل مئة وجه، وما كان عداء اليوم قد يكون خلافه غدا، أما الأمور الدينية فلها القائمون عليها في المملكة". فقلت له: "فإذا عرضنا السياسة على الدين"؟ فسكت، ثم قال: "لا أحد راض بما يقع في غزة"، ثم تبادل مع زميله المرافق نظرات، أدركت من خلالها السطوة الأمنية على كل من يتجرأ على نقد ولي الأمر. إذن ألقى محدثي بالموضوع إلى عدم الرضا، وهو أقل الإيمان، إذا ما صح منه الإنكار قلبيا، ولكن كيف له أن يكون في هذا المقام الضعيف من الإيمان ولسانه يدافع عن سياسة الملك سلمان وابنه ولي العهد؟

 

لذلك لا تسمع في خطب الجمعة بالحرمين المكي والمدني غير تلاوة رتيبة لما تيسر من نصوص شرعية معهودة من وحي المناسبة، من دون الغوص عميقا في مدلولاتها الحضارية، وغير إشادة بولاة الأمر القائمين على "التوسعة"، ودعوة لبقاء ظلهم الوارف على ربوع المملكة. أما القضايا الكبرى للأمة كتحرير فلسطين، فلا حضور لها في الخطب مطلقا، وإن حضرت فعلى استحياء تذكر، أو تؤخر لتدرج ضمن الدعاء في خاتمة المطاف. وكما هو معلوم، فإن جل الحجيج من الأعاجم، وأغلب هؤلاء لا يتقنون العربية، ولست أدري لم لا يفكر القائمون على خدمة الحرمين بإنشاء غرفة تعنى بترجمة الخطب مباشرة إلى لغات العالم؟ وأكرم بها من صنيع لو كانت الخطب عصماء تستنهض بموضوعاتها الحية الأمة جمعاء!

 

حاجة الأمة إلى لغة تواصل مشتركة

تنتابك وأنت تتملى جالسا بالجوار القبر الشريف الدهشة والذهول، كأنما هو التاريخ الإنساني طوي بين يديك، أو كأنك أمام قمة متعالية في الشموخ، قد خفض أجنحته تحت سفحها بتواضع كل من وطئت قدماه أديم الأرض أو عبر في الملأ الأعلى من الملائك والجان والأنبياء والأولياء والعلماء والخلفاء والملوك والأمراء والقادة والعوام، وكل كبير وصغير عرف صيته في الحياة الدنيا وكانت له بها آثار خالدة. تحت قبة خضراء نضرة محظية، حوت تحت سمائها أعظم خلق في الوجود، رسول اصطفاه ربه وطهره وأدبه وأعطاه ما لم يعط أحدا من العالمين؛ إنه لشرف كامل والله العظيم لا شرف سواه!

 

للشيخ محمد الغزالي (رحمة الله عليه) لفتة طيبة، وما أكثر اللفتات الطيبة لديه، حينما قال بأن أمتنا رغم أنها تستخدم اللغة العربية في الصلاة والأذان وسائر الشعائر التعبدية، إلا أنها عاجزة على جعلها لغة تواصل فيما بينها. إن كل من عايش أخلاطا من الشعوب الإسلامية في الحج، يدرك عظمة الخالق في انتشار دينه بين البشر، ويرى رأي العين كيف أن لله عبادا لا يعلمهم إلا هو، التقوا على صعيد عرفات في يوم الحج الأكبر، كل يناجي ربه بلغته الخاصة، فتبلغ دعواتهم كلها رب العزة جل جلاله، وينفرون جميعا مغفورا لهم إن شاء الله.

 

إنه إن كان دعاء العبد ربه ميسورا لا يحتاج إلى ترجمان، فإن الحاجة ماسة دوما إلى وجود لغة واحدة لا تتغير عبر الزمان يتواصل بها الحجاج في ما بينهم، لتتلاقى أفكارهم على ما يصلح دنياهم وأخراهم. ولست أدري كيف قبل معظم المسلمين أن تكون لغة الإنجليز لغة يلجؤون إليها مفاخرين كلما دعت الحاجة إلى التواصل، ويستنكفون عن جعل العربية - لغة قرآنهم وسائر شعائرهم - لغة توحد ألسنتهم وتعبر عن حاجاتهم؟

 

مواسم الحج فرصة لتقوية النسل

إنه لمن دواعي اللقاء التعارف، والتواد، وتبادل وجهات النظر في آلام الأمة وآمالها. وذلكم هو البعد السياسي من فريضة الحج. المسلمون وحدتهم الشعائر التعبدية وفرقتهم الأهواء السياسية. وإن تعجب فعجبك بالوفود الزائرة من كل جهات العالم كيف لا تفكر في إيجاد قيادة موحدة للعالم الإسلامي تهبها الشعوب الولاء والطاعة إرضاء للرب وخدمة للدين. ولأن هذا البعد الوحدوي في مواسم الحج مغيب منذ فترة تطاول عهدها فإننا لا نجد في هذا الاجتماع السنوي حرصا من الحجاج أشد من حرصهم على أداء المناسك على أحسن وجه يحقق لهم الوعد النبوي الصادق بالجنة. أما أن يصاحب هذه الأمنية السامية التفات إلى شؤون الأمة فقليل ما هو.

 

كان لتمزيق الوحدة السياسية على كيان الأمة الإسلامية آثار سلبية في اعتدال النسل عبر الأجيال. فراية الخلافة الإسلامية كانت ضمانة حسنة لنسل جيد تتفتق عنه الأرحام قلما يتاح لأمة من الأمم. ولطول العهد بالمصاهرة داخل كل دولة إسلامية حديثة على حدة، انحبست الخصائص الوراثية بين أفراد شعبها، فاكتسبت كل دولة ملامح فارقة عن غيرها، وجرت في دمائها طباع متشابهة، لا يصعب على الناظر تمييز أكثرها، وبالتالي معرفة أصحابها من الألوان والأشكال والأصوات؛ فمنهم المعتدل في اللون ومنهم غير ذلك، وفي صورهم الحسن والقبيح، ومن أصواتهم المستعذب والنشاز... بيد أن الإسلام الذي شرع الحج موسما كل عام يتجدد فيه اللقاء بين المسلمين، يكون قد منح فرصة من إبريز ليتعارف المسلمون في ما بينهم، ولما قد يفضي إليه ذلك التعارف من مصاهرة ونسب، تجري عبره دماء متجددة، تجعل نسل المسلمين يعتدل مع الزمن ويستقيم. ولقد وجد فقهاء كبار في حديث نبوي شريف، على ضعفه، دليلا حسنا يحض على هذا الأمر وفيه إعجاز علمي أكده علماء آخرون: "اغتربوا لا تضووا" أي تباعدوا في النكاح لا يضعف خلفكم.

 

يستنكف شباب الأمة في هذا الزمان عن الزواج، لا أتحدث عما وضعت الشياطين في طريق الزواج من عوائق أوهمت الناس بأنها من مقتضيات الزواج وما هي إلا سراب، وإنما أتكلم على الرتابة المملة التي تخلقت من الزواج القريب في الدولة الواحدة، حتى أصبح الفتى يرى في الفتاة صورته أو صورة رحمه، إنها مسألة نفسية، عطلت الحياة وأضعفت المسلمين.

 

في مواسم الحج تتدفق النسوة إلى أرض الحرمين الشريفين من كل الأجناس والأعراق، حاملة معها كل ما استودع الله حواء من أنوثة، تتناثر كحبات اللؤلؤ والمرجان على صعيد واحد، طهره رب العزة من الذنوب والآثام، بما شرع له من أوامر ونواه تقيه الفسوق والعصيان، يدرك كل من وطئت قدماه القبلة المشرفة وقصد أداء هذا الركن ألا مجال للاقتراب من حدودها بتاتا.

 

إن كل من عقد النية وأحرم بعمرة أو بحجة، منع من عقد النكاح لنفسه أو لغيره، وحرم عليه الرفث والفسوق والجدال، كما حرم عليه قطع شجر الحرم أو تنفير الطير منه أو صيده أو الإعانة عليه، مصداقا لقوله تعالى: {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}، والابتلاء مع النهي وارد جدا في مثل هذه المواطن، فليحذر المحرم من ذلك، كما ورد صراحة في الصيد، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ ۚ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۚ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ۗ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ۚ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ}. فالانتقام الإلهي غير مأمون لمن خالف أحكام الإحرام، حتى يقضي الله أمره من الفريضة. يباح للحاج بعدما أدى المناسك ونال غفران الله ورضوانه إن شاء الله، أن يبتغي فضلا من ربه، وأي فضل أحسن من مؤمنة ومؤمن يجمع الله بينهما في خير، وقد كان الحاج لتوه يدعو الله تعالى بين الركنين اليماني والحجر الأسود: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار}.

 

بيد أن الأمور في هذا الزمان لا تنحو في هذا السبيل كما يجب أن يكون، فالناس منشغلة بأداء المناسك، والمدة التي تقضى بجوار الحرمين يسيرة، والمشقة بادية للعيان، والفروق في اللغات تعيق التواصل، والأنظمة السياسية عودت الناس الاستئناس بقومها، والتوجس من غيرها، ولا توجد مظلة سياسية جامعة تشجع الناس على توطيد القربات... إلا ما كان من حالات نادرة، كتب الله فيها فضلا لأصحابها؛ وفي المحصلة، فقد خسر المسلمون كثيرا من تفويتهم هذه المناسبة لتحصيل مقاصد شرعية جمة، ستحمدها الأجيال القادمة لو أنهم اهتبلوها.