المثقفون بين الماضي والحاضر
مثقفو اليوم يتكسبون بثقافتهم مالا، إلا من رحم ربك، كشعراء الأمس بين أيدي السلاطين، الأمر الذي أقام حجابا كثيفا من التوجس والازدراء المتبادل بينهم وبين شعوبهم. ما أفضى لاحقا إلى زهد في الثقافة واعتبارها ترفا من الكلام ليس من ورائه طائل.
الجامعات ملأى بالمثقفين الواعدين لولا أنهم في شغل فاكهون، وفاكهتهم تجميع نقاط والتقاط أوراق، وتوريق مستويات، وتسوية وضعيات بشهادات صورية ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الثقافة تحمل وأداء، تحمل معرفة مفيدة بتعلّم متقن، وأداء هذه الثقافة صبها في المجتمع بطريقة أو بأخرى؛ وعلى أساس ذلك يقوّم عمل المثقف، تقويما لا ترى فيه عوجا ولا أمتا، فالله والرسول والمؤمنون هم من سيرى العمل، ومن بعده قبول في الأرض والسماء أو رد.
إن للمنطق قوة لا تعدلها قوة، وإن ظهر للعيان ضعفه أول وهلة. وللقوة منطق، مهزوم جمعها وإن بدا للناظر أن لها صولة؛ ذلك ابتلاء من الله عز وجل ليعلم من ينصره ورسله في مواطن الصراع والمغالبة. هنالك جوهرتان في تاريخنا الحديث، كتب الله لهما القبول في القرن الماضي، عكستا نورا متلألئا لا يزال يتراقص ضوؤه في فضاء الجزائر، جدير بالطلاب والباحثين السير على هداه، إنهما العلامتان عبد الحميد بن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي، قلما يجود بهما الزمان رحمهما الله.
والعلامة محمد بن أبي شنب عقل قاوم الاستعمار في زمانه ثقافيا، وألزم المستبد حده فوفاه احترامه؛ تلكم أبرز حسناته، وإن اختلف الناس حوله فيما عدا ذلك (رحمه الله).
المثقف الجزائري المعاصر يعيش حالة من الضياع في كل شيء تقريبا، سبّبها نكران السلطة القائمة في البلاد لفضله ودوره. ولم يجرؤ هذا المسكين حتى اليوم على افتكاك حقه منها، وجلا مما قد يلاقيه في سبيل ذلك من أذى. صورة هذا الواقع مجمدة على هذا المشهد حتى إشعار آخر. {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم}.
الإمام إبراهيم بيوض الإباضي (رحمه الله) كان أمة قائما لله تعالى بضمير وحدوي ينبض بالمودة لشعبه وأمته، متعاونا مع إخوانه المالكية على نشر ما ينفع، ودفع ما يضر. فما أحرى العلماء، سنة وشيعة، أن يتمثلوا شخصيته ويتبعوا منهجه، ويكفوا ألسنتهم وأيديهم عن المسلمين.
المسلم المعاصر مدعو اليوم إلى توثيق صلته بالله حيث أقامه ربه، ومن ثم عليه تبليغ الإسلام إلى الناس كافة على هذه المعمورة، مستفيدا مما أتاحته الأنترنيت من خدمات ليتواصل ويترجم. وفي ذلكم أشرف منافسة بين المتنافسين.
حاجتنا إلى تعليم شرعي متجدد
التعليم الشرعي الموازي للتعليم الرسمي بات اليوم ضرورة شرعية، ويدخل في عداد الفروض الكفائية، نظرا للحاجة الملحة إليه اليوم. ضرورة أملاها الجهل بالدين وسطوة العلمنة على التربية والتعليم في البلدان المسلمة، حتى فسدت عقول الناشئة وقلوبها وتشوه سلوكها، إلا من رحم ربك؛ لذلكم يتوجب على حملة الثقافة الإسلامية بكافة مستوياتهم النهوض بهذا الفرض الكفائي كل بحسب وسعه، ولا ينتظرن القائم بذلك أجرا إلا أجرا يدخره المسلم لآخرته. البحث في العلوم الإسلامية عجيب أمره، والبحث بالعلوم الإسلامية في مجال العلوم الإنسانية والكونية كذلك عجيب شأنه! إن مثله كمثل شعاع ساطع اخترق ظلمة قصر منيف، جللته أيد ساحرة بمرايا فضية، تكاد من فرط حسنها تنير، نور يقتبس من نور. أتأمل كيف أن الله تعالى لم يقدّر لهذا النور أن ينتشر واسعا في تلك الميادين العلمية الموحشة، فيتراءى لي أننا حرمنا شرفا رفيعا لما آثرنا القشور على اللب، وكَلِفنا بالمادة النظرية وغفلنا عن التطبيقات العملية.
مكانة "علم الأصول" في الفكر الإسلامي كمكانة علم المنطق في الفكر الفلسفي، انطبعت بمباحث "الأصول" العقلية الإسلامية حتى بدت ظلاله في شتى مجالات المعرفة، ومن يجهل هذا العلم سيجهل بنية علوم كثيرة نمت وأينعت في رحاب الحضارة الإسلامية، "علم اللغة العربية "واحد من تلك المجالات، يخضع اليوم إلى درس وتدريس في الجامعات العربية والدولية يكاد يجزم المرء أنه تشويه متعمد، أو لنقل إن من أراد فصل الدرس العربي عن منهجية الخليل وسيبويه وإلصاقه بـ"فردينان دوسوسير" لا يريد للعربية أن تزدهر كما كانت، أو أن ترفع الناطقين بها ليفهموا عن ربهم ما يريد... وفي ذلكم كيد عظيم، يستهدف التأثير البليغ للقرآن الكريم على المسلم المعاصر، والمسلم – تاريخيا - خليفة ربه في عمارة الأرض، وعقبة كأداء لكل من يسعى فسادا فوق البسيطة.
للفقه الشيعي مشكلة مزمنة مع المصالح المرسلة، علاوة على مشكلته مع منظومة الفقه الإسلامي بمذاهبه السبعة المتبقية؛ فالمصلحة لدى فقهائه - عموما في المهذب لا خصوصا - تبيت بليل لا يعرف أسراره إلا المقربون، وروحية الفقهاء الجعفرية "المتأخرين" مشحونة بتراكمات الخصومة على مقتل الحسين (رضي الله عنه)، والمصلحة عندهم ترى بعين مذهبية بحتة، قلما تتسع حدقتها لتشمل حسابات الوحدة الإسلامية، التي نادى بها العقلاء في مختلف المذاهب الإسلامية.
إن هذا هو ما يفسر لنا المآزق التي تورطت فيها السياسة الإيرانية، المرسومة معالمها من الآيات الحاكمة في هذا البلد "المتمرد" على أمته وأعدائه، تمردا جر عليه حبلا لا ينتهي من الأزمات تنوء بها الدول العظمى ذات القوة، من دون بارقة أمل في أن تتعقل الرؤية الثورية، فترى المصالح بعين شرعية، كما رأتها جحافل من الخلفاء والفقهاء والعقلاء عبر التاريخ.
إنه إعجاز يتجدد في مخابر اللسانيات الحديثة، بعدما استعصت الألسنة على التقويم، رغم ما يبذل من درس لغوي مسلح بالأجهزة في صروح التعليم العالي، لتظهر الحقيقة العلمية قائلة: إن علم التجويد والقراءة المتلقاة مشافهة بالسند هما الحل الأوحد لمعضلة العيوب النطقية لدى دارسي العربية. وما يزال بعض الباحثين يكابرون في هذا، من دون أن يجدوا حلا لأنفسهم وطلابهم مما هم فيه؛ وأضحى اللحن والعجمة، وضمور الفصاحة وجفاء البلاغة السمة البارزة لهؤلاء المتخصصين.
"السنة" كلمة لها وقع مقدس في النفوس، يتخذه بعض المتدينين وسيلة لنشر رأي فقه يعتقد صحته غالبا ما يكون رأي مذهب أو فقيه أو متفيقه. إن أسوأ ما في ذلك أمران: أن يتشوه السلوك الاجتماعي بتعدد الآراء في بيئة موحدة فقهيا، وأن يحول ذلك دون تقبل المتعلم المدارس الفقهية أثناء دراسته الجامعية.
"علم الكلام" واحد من المعارف التي لم تطو مباحثها بعد رغم خلاف البعض، وما تزال فصوله متجددة لم تخلق رغم الزمن، إلا عند من شبع عقله من موائد الأقدمين، جزاهم الله تعالى عما قدموا لغيرهم خير الجزاء.
لأبي حامد الغزالي رحمه الله إبداعات هي إلى الفتوح الربانية أقرب منها إلى العبقرية، وفي كل له باع. علماء اليوم، في كل المجالات، يعولون كثيرا على العبقرية، ويتمحّلون الوصل بها ادعاء من دون أن تقر صراحة أحدا بذاك، إلا ما شاء له القدر من نصيب هنا أو هناك، وهو قليل على كل حال.
"التصوف الإسلامي بين الزهد والملك"، إطلالة على مآل التصوف بعد رحلة مشرقة بالعرفان، مآل لا يحسد عليه من يمارس التصوف اليوم عنوانا لأطماع دنيوية زائلة، زادتها السياسات غير الرشيدة فسادا؛ فرضي من "يحترف" التصوف منهم أن يكون مزهرية تزين بلاط السلاطين، وغفل عن الرباط وشظف العيش من أجل غد أفضل، عاش لأجله أفضل التابعين أويس القرني واستشهد من أجله سعيد بن المسيب. وسيعلم هؤلاء وأولئك أي منقلب سينقلبون.
تفعيل المنهج الإمبريقي في الدراسات الإسلامية يزيد تلك الأشعة المتوهجة اتقادا، وينشر ضوأها في كل الدنيا... وفي تلكم الأنوار المبهجة للناظرين، يحسن بنا أن نعمل مع العاملين. كما يتوجب على طلاب العلم- أقصد من تضع الملائكة أجنحتها لهم رضا بما يصنعون، وطلاب الشرع الحنيف في الطليعة- ألا يكترثوا كثيرا بأمر التحصيل العلمي في الجامعة، لأنه هزيل ولا يقيم صلبا، وأن يربؤوا بأنفسهم عن "الولع" الشديد بـالشهادات الجامعية؛ فقد أضحت اليوم الشغل الشاغل لهم؛ وفي هذا مدخل من مداخل إبليس المعاصرة، يلبس عليهم فيها النوايا الخالصة فتختلط بغيرها، ليذهب عنهم زهرة الحياة سدى؛ وذلكم يزري بالعلم والعلماء معا.
الواجب، إذن، إيلاء الطلاب وجوههم قبل العلوم يحصلونها بدراية وعمق، ثم لينفروا دعاة إلى الله على بصيرة هم ومن اقتفى أثرهم. "ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين".
شرود البحث في العلوم الإنسانية
لما تبحرت المعرفة الإنسانية كثيرا بغير هدي من الوحي، وشردت بعيدا عن تعاليم معلم الناس الخير، حصدت في آخر المطاف سوء العاقبة، ودخلت متاهة لا قبل لمناهجها "العلمية" بها، ولمّا تزل حائرة في أمرها، وما من مجيب... "الإعلام" مثلا يتخبط اليوم في مقاربة الأخبار التي ينقلها، ولا يدري حقا كيف يعالجها، فجنى على نفسه حين جهل مناهج علماء الحديث في نقد الأخبار، وجنى على الناس حين ادعى أنه السلطة الرابعة، مفاخرا بقدرته على صياغة الرأي العام الذي يتحكم في باقي السلطات؛ وهنا تبدأ "لعبة" المتاهات.
المنظومة التربوية في عالمنا الإسلامي تحتاج ترياقا لأدوائها المزمنة، من المؤكد جدا أن ترقى الأجيال التي تحيا اليوم إلى مصاف الأمم المتحضرة في غضون سنوات، فتنال قصب السبق في المنافسة المحمومة بين دول الشرق والغرب؛ لو أنها أدركت الدواء اللازم لنهضتها؛ المتمثل تحديدا في فهم تعاليم الإسلام عن الكون والإنسان والحياة. يمكن البدء في ذلك مباشرة بتثقيف النفس من علوم الدين وتدارسها فرديا وجماعيا بتؤدة وروية؛ وسيحمد الدارسون غب سراهم بعد فترة وجيزة من ذلك بإذن الله.
واقع يتحكم في السلوك البشري، نصفه أو يزيد عليه قليلا تفسره نظرية "الإشراط"، أو هكذا نسبت إلى "بافلوف" الروسي، وهي أصلا تعرف بنظرية "سبق الوهم إلى العكس" كما سماها رائدها الإمام الغزالي؛ أراها تصلح كثيرا لإصلاح النشء وتربيته على قيم الخير، وفي ذلكم أفضل سبيل يتنافس فيه المتنافسون.
"الاستشراق" مسرح هزلي لمن يريد الاسترخاء من عناء الفكر الجاد، كان ولا يزال يمثل صورة الشرق لدى الغرب، وهي صورة "كاريكاتورية" تبين للناس عدم رضا الملة المسيحية على الملل الشرقية، والمسلمون في القلب منها بطبيعة الحال؛ هزلية الصورة سحرت الأجيال الجديدة في الغرب لمزيد من الاطلاع على هذا الشرق المؤمن، فانقلب السحر على الساحر، واعتنقت الإسلام تلك الأجيال؛ فـ"تبدل وجه فرنسا" كما أقرّ الرئيس الفرنسي الأسبق "فرانسوا هولاند" مكرها، وها هي ذي أوروبا تستشرق اليوم إسلاما وإلى الأبد إن شاء الله تعالى.