المتابع للشأن المحلي سيلاحظ تغيرات جوهرية طرأت على شخصية عزيز بعد دخوله في مسلسل التعديلات الدستورية، فقد ارتطمت محاولته لنيل وسام أو رمزية الزعيم الوطني بلكمة الشيوخ أو ما يصطلح عليه في عالم الاحترافيين بـ"ضربة معلم" التي كانت قاسية وكان عنصر المفاجأة فيها هو العمل الاستفزازي الكبير بالنسبة لزعيم تسلطي يراقب مكالمات الناس وتفاصيل حياتهم، ولم يعرف الهزيمة السياسية منذ دخوله المعترك، بل ظلت الأحداث تناصره منذ 2005.
لقد أضحى سلوك عزيز فيما بعد محكوما بتأثير تلك الضربة، ولهذا صارت كل خرجاته إلى حد مّا قراقوشية. وعند نقطة جردة الحساب - أي بعد اكتمال عملية الاستفتاء - شعر بالضعف. إنه يعيش اليوم مرحلة خوف كبير من المستقبل القريب: 2019. وقد اختلط الحابل بالنابل في أوراقه بما في ذلك الورقة الضامنة للخروج السلس: "ورقة التوريث". إنه اليوم أيضا - أكثر من أي وقت مضى - أقل وثوقا من كل تصرف مستقبلي، ومن معاونيه المدنيين الذين اصطفاهم بفعل قربهم من رغبته وطموحه الشخصي، وبسبب مسؤوليتهم المباشرة في جزء هام من الفشل الطبيعي، فليس مرد عزوف الناخبين عن التصويت للدستور أن الحكومة غير معروفة سياسيا ولم تقف عند تعهداتها المباشرة وحسب، بل ولأنها معروفة بذلك على طول الخط. إنه يريد الظفر بالثور وثمنه مجانا، وفي آن واحد في مجال السياسية.. أيكم يمكنه تخمين طموح هذا الرجل! وحتى أثناء إحباطه فإنه يفضل إظهار القوة أو تحدي الأحداث وهو يلوك الهزيمة بكل مرارتها ويبصق في داخله على كل هذه الحياة السياسية دون أن يطلع عليه أحد، وهو يشعر في قرارة نفسه بالضجر من عملية الشد التي لا تتوقف مع هذه المعارضة الصبورة، فلم يكن ذلك هو توقعه ولا طموحه. لا يمكن الرهان على محافظة عزيز على نفس المسافة من مصير زعماء الربيع العربي وهو يواجه ضعفا في التركيز وتدهورا مريعا في الأوضاع وفي الشعبية وكل ما يقوم به من عمل جبار هو التصلب اتجاه التجاوب الموضوعي مع الأحداث التي تحمل تطلعا ملحوظا لمصلحة التغيير.
إن الفرق الوحيد الذي يفصله عنهم اليوم هو أنه لما تغمره الأحداث بعد، وقد كان شاهدا فاعلا على مصائرهم، وهو اليوم يقف على مشارفها. أما كونه على وعي من أهمية تلك الفرصة فليس أمرا يمكن التأكد منه، ليس لسبب آخر سوى أنه تستهويه المغامرة وأنه يعتقد أنه يختلف. وهي نفس الحفرة التي سقط فيها سابقوه.. مرة أخرى وعلى نحو أخطر لا يدري عزيز أن شرعية نظامه قد انهارت عندما تحطمت تطلعات المواطنين بعد 9 سنوات من الدعاية التي يسيل لها اللعاب، ومن الحكم الممركز في يد شخص واحد، وقد جاءت كل الأخبار والتقارير الرصينة بتضاعف مدخول الدولة مرات على مدى 6 سنوات، دون أن يتحسن وضع أحد، وبأن رئيس الفقراء هو صاحب أكبر ثروة في البلد. إنه لا يقبل بتلك المعطيات ولا بواقع أن الهزيمة من نتائج سياساته أبدا أو بأنه يواجه تهديدا متشعبا على الباب ومن الداخل من طرف الناس الذين ظل يسوقهم نحو تحقيق مآربه ويستجيبون له بكل إذعان وحسب رغبته ودون مقابل سوى ما توسوس به صدورهم من رغبة وتطلع لإصلاح مشاع النتائج، ينتعش بسببه الاقتصاد وتزداد به فرص العمل ويدعم تحسن أوضاع المواطنين المعيشية وتتسع بفضله الخدمات العمومية، الأمر الذي نعيش عكسه تماما. إننا نقف عند نقطة فشل عزيز كرئيس أو كقائد لأغلبية سياسية غير محبوكة تماما. لكن هل ينطبق ذلك على النظام، أو بشكل أكثر دقة هل سيقبل النظام بأن يكون طرفا في الفشل؟ أو سيقبل بتضييع فرصة إنقاذ نفسه وهو يسير خلف الفشل؟.. فهل كان الخروج السافر من مسؤولية التحفظ بالنسبة لقواد العسكر إنقاذا للموقف أم كان مبرمجا مسبقا تحضيرا لما بعده، وقد جاءت الأحداث بحسابات ورهانات جديدة؟!.
تبدو كلمة النظام هنا غير واضحة كما ينبغي، وللسبب نفسه يجب علينا التعرض لبعض التفصيل: إننا نلاحظ أن عزيز ما زال عسكريا في الجوهر، وأن الجهة الوحيدة التي حافظ على تنظيمها وأغرقها بالمال والمصالح وتحظي باحترامه الكبير ويتنازل لها عن صلاحيات أوسع في الدولة أو على الأقل في التسيير هي المؤسسة العسكرية أو الجنرالات، ثم إنها حاضرة أو حاضرين في المشهد الوطني، فقد كشفت الأحداث عن مساهمة فعالة للجنرالات في العملية السياسية، بل وتلقوا التهاني على دورهم العلني الذي أنقذ العملية الانتخابية من الخمود من طرف عزيز نفسه. إن هذا التفصيل يُجَلِّي لنا حقيقة الصورة الكامنة في أننا أمام نظام عسكري مُحجَّب، لكن هذه "العسكرة" باقية في الخلف حتى تخرج الأوضاع من نطاق سيطرة الرئيس، بينما سنظل أمام نظام مدني ورئيس منتخب عندما تظل الأمور تسير وفق قواعد اللعبة.. فهل وصلت الأمور لرفع الحجاب؟. ليس هناك أدنى ظل من شك في أن الأمور أخذت تخرج من قبضة عزيز وأن دورا رياديا للنظام صار إجباريا، إلا أن المفاجأة الكبرى هي أنه لا النظام ولا عزيز يملكان الكثير من الوقت لإعادة ترتيب الأوراق وإن كان بعض المحللين يرون أننا نملك حلا جاهزا حينما يقارنوننا بالنموذج المصري: مؤسسة عسكرية قوية ومنظمة وحاضرة في المشهدين السياسي والاقتصادي مع اختلاف تفصيلي مهم: كون المؤسسة العسكرية الموريتانية لا تخدم مصالح البرجوازية بصفة دقيقة، لكنها تتقاسم المصالح من المؤسسات التي أخضعت لوصايتها ومن الميزانيات التابعة لها دون أن تتعرض بشكل مباشر لمصالح المتنافسين في الاقتصاد. وهكذا ظل الجيش لحد ما يملك مصداقية وطنية دون أن يتأثر من كونه جزءا عميقا من المشكلة والحل على نحو لا يمكن تجاوزه حاليا على الأقل.
إن النقطة التي نخاطب فيها كلا من عزيز والنظام كأطراف منفصلة هي أنه يمكن استمرارهما وانفصالهما حسب الظروف، لكن السؤال المطروح هو كم من الوقت يملكون لتحديد مصيرهم المستقبلي في هذا الظرف، أي في ضوء الأزمة والفشل وطريقة ذلك، وهذا هو التفصيل الثاني الأدق؟ وهل عزيز الذي نـُشر توثيق عن بعض مظاهر الفساد المحيطة به هو نفس عزيز الذي جمعهم خلف توجهات الإصلاح؟ وهل يمكنهم تسويقه مجددا أو تسويق نظامه للمستقبل؟.. لن يكون في مقدورنا الجواب بدل الآخرين لكن قد يكون من الصواب القول بأن جانبا مهما من تحديد مصير تلك العلاقة يتوقف على الأوضاع ووتيرة سير الأحداث المضغوطة حاليا. لكننا نتوقع اختلافا في القمة حول شكل وطريقة المخرج. إنه الوقت الوحيد الذي تفكر فيه النخبة العسكرية لإنقاذ البلد من الأسوأ والأسوأ فقط، وهي النقطة التي تكون فيها النخبة السياسية مهيأة للالتحام بها. وقد وقع ذلك ثلاث مرات في تاريخ البلد: 1978 و1984 و2005 حينها لم يكن أيا من تلك الأنظمة تنقصه الدعاية الزاخرة بالإنجازات والازدهار، ولا ينقصه دعم المتزلفين غير المحدود، وعندما يتم اقتلاعه يظهر أنه كان يغطي على وضع يسير نحو الهاوية بكل تأكيد، وأن المصفقين كانوا يلاحقون رغبة الرئيس دون أن يأتوا بأي ابتكار من عندهم، لكن جو الضوضاء الذي يختلط فيه التضليل الواسع بالحقائق بسبب المنافسة داخل نفس الفلك بين السابقين واللاحقين أو المستفيدين والطامحين للاستفادة. إنها نفس حالتنا اليوم دون أي تبديل. إننا نلاحظ حدثين خيما على وضع عزيز النفسي في وقت غير مناسب تماما هما: المرارة من لكمة الشيوخ وخيبة الأمل في المعاونين، وكأنه يقع في لب المؤامرة. وأثناء تلك الحالة النفسية المزعجة يتوجب عليه تسير تحدييْن كبيرين: تسيير الفشل وتسيير التأزم، وأكثر من ذلك يتوجب عليه فك حصار عاملي الزمن والاقتصاد اللذيْن يضغطان عليه بشكل متسارع. فمع من سيكسب عزيز الرهان؟ وإذا لم تكن هناك معجزة فليس عزيز مهيأ لأي تصور عقلاني مع أنه مبلل بالمشاكل. وبعيدا كل البعد عن ذلك، ودون أي تشاور مع أحد، ولا تعاط مع مقتضيات الأحداث حول ما يجب القيام به، يحاول عزيز أن يشد الانتباه إلى ساحات أخرى بعيدة وهو يمارس خلالها هواية إغواء الرأي العام المفضلة عند نمطه من الناس عبر استعراضين منفصلين تخطيا وضعه الدقيق: الأول فبركة ملف كبير عن زعزعة أمن موريتانيا عبر الجرائم العابرة للقارات كما ورد في بيان النيابة العامة، وقد ذهب الوزير الذي وقع عليه تهويل ذلك الملف في العطلة دون حبكه وتركه في يد الشرطة التي ظلت تئن تحت جهد تركيب ملف من الفراغ من خلال إعطاء الانتهاك في حق ولد غده مبررات ودوافع كبيرة وخطيرة، واستجواب مزيد من الفاعلين المدنيين والسياسيين والمنتخبين وربطهم برجل أعمال معارض لم يتم تجريمه بالفعل، واستجواب صحفيين يقارعون الخطر المحدق ببلدهم. إن قيام صحفيين تدفعهم مضايقة النظام الممنهجة بمد يد العون لأي مواطن لكي تبقى مؤسساتهم المهمة ـ التي توفر مساحة حرة للرأي ـ على رمق الحياة ليس جريمة، لكن تصرف نظام لا يستطيع أن يظهر بعض الفهم لصحفي يملك خطه التحريري الحر، وقد يجد من يستهويه ذلك الخط ليساعده أو يحالفه دون أن يكون قد تخطى القانون، (فلا جريمة ولا عقوبة إلا بنص) هو التصرف اللا قانوني واللا ديمقراطي. أما العمل الثاني فهو الزيارات الاعتباطية التي يقوم بها عزيز لمقاطعات انواكشوط من أجل منح فرصة للمواطنين لتمجيده مجددا تحقيرا للفشل الذي يعيشه هذه الأيام وكأن ساعة تمجيده قد حلت. إنه كمن يتلهى عن حقيقة مصيره.