قبل ما يقارب سنة كاملة من الآن، أوكلت الدولة الموريتانية للجنة الوطنية للمسابقات الإشراف على اكتتاب مائة أستاذ وتكنولوجي للتعليم العالي، لاعتقاد الحكومة أنّ اللجنة لديها من الكفاءة والنزاهة، ما يمكنها من تنظيم مثل هذه المسابقة بأمانة وجدارة واقتدار، لكن الواقع، أثبت ميل لجنة التحكيم - المحكومة مركزيا دون رأي خبرائها - إلى العبث بالمسابقة، والخروج بها عن المشروعية.
كيف تم العبث بالمسابقة؟
منذ إعلان المسابقة يوم 7 ديسمبر 2023، بدا واضحا أن لجنة المسابقات، عاجزة فنيا عن تنظيم مثل هذا النوع من المسابقات، وأن اللجنة لديها من جهة أخرى رغبة في العبث بالمسابقة، وتوزيع المقاعد المطلوبة بشكل غير معياري، لأسباب، تبدو جهوية، وأحيانا سياسية، ولأسباب أخرى، لا مجال لذكرها في هذا المقام.
- تمديد آجال الترشح وتغيير توصيف المقاعد: ارتبطت العدالة في الفكر الفلسفي منذ أفلاطون وإلى اليوم بالمساواة، ونفي الفوارق، وكل خروج على المساواة في أي تسابق، يمثل خرقا سافرا للعدالة.
وقد انكشف خرق اللجنة لمبدأ المساواة، وتوجهاتها الجائرة، منذ تمديدها لآجال الترشح، فبعد أن كان الأجل المحدد لتقديم الملفات للفترة ما بين 7 دجمبر إلى 27 من نفس الشهر 2023، مددت اللجنة آجال الترشح من 27 دجمبر إلى 11 يناير 2023، ثم مددت هذه الآجال مرة أخرى من 11 يناير إلى غاية 25 يناير 2024 في سابقة من نوعها في مسابقات التعليم العالي.
هذه البداية المنحرفة، أشفعتها اللجنة - بعد ذلك - باستبعاد ما يقارب 230 مترشحا من أصل 600 مترشحا من أصحاب الكفاءات العالية من المقبولية الإدارية، واستبعادهم نهائيا من المشاركة في المسابقة، أحيانا بتوجيه ضمني من منافسين، لديهم شبكة علاقات في التعليم العالي، وأحيانا لأسباب واهية، لا يوجد لها سند في النصوص المنظمة للمسابقة.
ببساطة، كانت تمديد أجال الترشح، وتغيير طبيعة بعض المقاعد، واستبعاد كفاءات عالية من المقبولية الإدارية، مؤشرات تؤكد حقيقة العبث بالمسابقة وانحرافها، كما تدل على رغبة لجنة التحكيم في توزيع المقاعد على أسس بدائية، تنتمي لما قبل دولة تكافؤ الفرص: دولة القانون والعدالة والمساواة.
- تغيير شبكة التنقيط بعد ثمانية أشهر من المسابقة: أكدت المرحلة الثانية من الاكتتاب (مرحلة قابلية النجاح) حقيقة الانحراف الذي طال المسابقة، فبعد دراسة اللجنة لملفات المتسابقين لمدة ثمانية أشهر، ومعرفتها للناجحين الاستحقاقين، ومن أجل منع تفوقهم، لجأت إلى تغيير شبكة التنقيط الأصلية، بشبكة أخرى مستحدثة، لتسمح لنفسها باختيار الناجحين الأوائل على المقاس، بعيدا عن كل الضوابط القانونية، والمؤهلات العلمية، التي بدونها لا يجوز لأي شخص أن يرتقي لأمانة التعليم العالي.
شكل تغيير شبكة التنقيط دلالة فارقة في تأكيد عبث لجنة المسابقات باكتتاب التعليم العالي، وتقسيم مقاعده بشكل غير استحقاقي، ولا أدل على ذلك من رفض اللجنة لاحتساب آلاف الساعات لأغلب المترشحين، ورفض تقييم عشرات المقالات والكتب لأسباب تمييزية، غايتها حجز التصدر لأشخاص، ليس لدى أغلبهم كل هذه المؤهلات، التي قررت اللجنة إبطالها.
لماذا استحالة مشروعية قرارات لجنة المسابقات؟
يسود إجماع بين أغلب المترشحين، وبين أستاذة التعليم العالي والعارفين بالقطاع، إلى أنّ هذه المسابقة، لا يمكن أن ينطبق عليها هذا الاسم، بقدر ما يمكن أن تصنف بأنها توزيعات "مشارية" بالحسانية، وهو ما يفقد مخرجاتها - المزورة - أي مشروعية وأي اعتبار في مجال التعليم العالي.
- عدم اختصاص لجنة المسابقات في البت في التظلمات: لكن بشكل أدق، فإنّ استحالة المشروعية التي تواجهها قرارات لجنة المسابقات، تتعلق بعدم اختصاص هذه اللجنة بالبت في التظلمات أيا كان نوعها، فالتظلمات سواء تعلقت بالمقبولية الإدارية، أو بقرار قابلية النجاح، أو بقرار النجاح النهائي، يعود اختصاص البت فيها إلى آلية تسوية النزاعات، المستقلة هيكليا عن لجنة المسابقات، وحلول اللجنة محل هذه الآلية، كما حصل في هذه المسابقة، يجعل قرارات البت في التظلم صادرة عن سلطة غير مختصة، ومستوجبة للإلغاء.
لقد نصت المادة: 15 (جديدة) من المرسوم رقم: 2023/068 بتاريخ: 10 إبريل 2023 يعدل ويكمل بعض ترتيبات المرسوم: 2014/060 بتاريخ: 13 مايو 2014 المتضمن إعادة تنظيم وسير اللجنة الوطنية للمسابقات (الجريدة الرسمية رقم: 1532) على أنه: "من أجل تعزيز الشفافية والإنصاف، يم إنشاء آلية خاصة مكلفة بتسوية الطعون الناجمة عن تنظيم المسابقات الإدارية الوطنية، تحيل اللجنة الوطنية للمسابقات، إلى آلية تسوية نزاعات المسابقات الوطنية إشعارات التظلمات المترتبة على تنظيم المسابقات الوطنية".
مثل إنشاء آلية تسوية نزاعات المسابقات الوطنية مفخرة لدى الحكومة الموريتانية، عندما قالت وزيرة الوظيفة العمومية السابقة، إن الدولة حققت إنجازا كبيرا بفصلها لآلية تسوية نزاعات المسابقات عن لجنة المسابقات، وهو ما تم تجسيده بالمقرر رقم: 0934 بتاريخ 10 أكتوبر 2023 الذي يلغي ويحل محل المقرر رقم: 540 بتاريخ: 7 يونيو 2023 المحدد لقواعد تنظيم وسير آلية تسوية نزاعات المسابقات الوطنية (الجريدة الرسمية رقم: 1555).
ورغم أن هذا المقرر، نص في مواده 2، 3، 4 على الاختصاص الحصري لآلية تسوية النزاعات في البت في تظلمات، إلا أنّ لجنة المسابقات، لا ترغب حتى الان في تفعيل آلية تسوية النزاعات، متحدية بذلك التوجهات الحكومية، من أجل أن تبقى هي سيدة الموقف، تظلم، ويتظلم أمامها، تقرر من ينجح دون معايير، ومن يقصى رغم أنف المعايير، لتبقى دائما هي الخصم والحكم.
هل من نماذج خاصة؟
لم تشهد أي مسابقة للتعليم العالي من اللغط والتظلم والإحساس بالجور، ما عرفته المسابقة الحالية، فمنذ ثلاثة أسابيع، يعتصم عشرات الشباب من الدكاترة والمهندسين في مقر لجنة المسابقات، احتجاجا على تزوير المسابقة، كما أنه في ذات السياق، تقدم أقل من نصف المترشحين (230) تظلما ضد قرار المقبولية الإدارية، وهناك 4 مقاعد علقها القضاء على هذا الأساس، كما قدم 137 تظلما ضد مرحلة قابلية النجاح المؤقتة من أصل 270، ووصلت الطعون القضائية في دعوى جماعية إلى 28 طاعنا، مع وجود عشرات الطعون الفردية على مستوى الغرفة الإدارية بالمحكمة العليا.
وإذا أخذنا حالتي كنموذج، رغم ما في حديث المرء عن نفسه من الاحراج، فإنني قدمت للجنة المسابقات ملفا يحتوي 3 كتب، وما يقارب ثلاثين بحثا منشورة في مجلات دولية ووطنية، وما يقارب هذا العدد من الندوات الدولية والمغاربية، وتجربة ثمان سنوات من التدريس، منها خمس سنوات لتدريس ماستر حقوق الإنسان، وماستر العلاقات الدولية، ومسار مهني فيه شهادات وإفادات ما بعد الدكتوراه، وخبرة وظيفية مثبتة.
لم تمنح اللجنة صاحب هذا الملف إلا الرقم 5 ضمن المؤهلين للنجاح في القانون الدستوري، في حين أعطت رتبا متقدمة لمترشحين بعضهم خارج المجال، ولا يمتلكون نصف هذه المؤهلات، رغم أنّ النشر محسوب بخمس نقطة، ولا يمكن لمن فقدها أن يتأهل للنجاح أحرى أن يتصدر الناجحين!
بدلا من أن تكون التظلمات سببا للإنصاف، استخدمتها اللجنة للاستهداف الشخصي، فبعد أن قدمت إليها تظلمي وحججي الثابتة على هذا التظلم، أخرت ترتيبي إلى الرتبة 7 بدلا من الرتبة 5، وبعد مراجعتها، لم تكن الإجابة سوى أنني استفدت من احتساب سبعة مقالات جديدة في الاختصاص، لكن نتيجتها، أخرت ترتيبي، ولم تزد نقاطي، ففهمت أن اللجنة، تريد معاقبتي على فضح فسادها في مقابلة تلفزيونية، أجريتها قبل البت في التظلمات!!
في نموذج آخر مليء بالدلالات، رفضت لجنة التحكيم تقييم عشرات البحوث لأستاذ في كلية الآداب، معللة ذلك بأن هذه البحوث، لا يمكن تقييمها لأنها بمكتوبة باللغة العربية!!
كما رفضت احتساب مئات ساعات التدريس الصادرة عن المعهد العالي للمحاسبة وإدارة المؤسسات ISCAE لبعض المترشحين، واحتسب ساعات صادرة عن نفس المعهد لمترشحين آخرين من نفس المعهد بشهادات متواترة!!
إنها مفارقات لجنة مسابقات، تعمل خارج القانون، وخارج سياسة الإنصاف والعدالة، التي ينتهجها رئيس الجمهورية، وتفتح الحكومة التطبيقات الإلكترونية لتجسيدها.
فإلى متى ستستمر عبثية لجنة المسابقات؟
وإلى متى سيستمر خرقها للمشروعية، وتجاوزها للسياسات الحكومية؟