لقد شرفني الأستاذ الكاتب محمد الأمين ولد الفاظل، بالدعوة لنقاش الكتاب الأول من سلسلة كتبه التي تنظر للإصلاح في موريتانيا وأكرمني بنسخة رقمية من الكتاب، للاطلاع على فحواه قبل موعد الندوة بأيام، لكن لتزامن نقاش الكاتب مع وقت الدوام لم أتمكن للأسف من حضور الندوة، ولقناعتي الراسخة بأن هذه السلسلة سيكون لها بالغ الأثر في تصحيح الكثير من المفاهيم الخاطئة عن ممارسة العمل السياسي وإدارة الشأن العام، ومعرفتي الكبيرة بالرجل وحرصه على مصلحة البلد وصدق نيته واستعداده لبذل كل ما بوسعه من أجل موريتانيا التي نريد جميعا، أجدني مرغما على تخصيص جزء من الوقت لتسجيل انطباع أولي عن هذا الكتاب وشخص كاتبه الكريم.
لقد عرفت الكاتب محمد الأمين ولد الفاظل قبل زهاء عقد من الزمن، وما يزال كما لقيته أول يوم، لبقا حسن الخلق، كريم النفس عفيف اللسان، خدوما سريع البديهة ثاقب النظر، يمتلك طاقة الشاب وبصيرة الشيخ، كرس كل وقته وجهده خلال الـ15 عاما الأخيرة لخدمة موريتانيا من موقعه ككاتب ومفكر وناشط سياسي وجمعوي، ولكم تخمين حجم تضحية شخص في عمره وبوعيه ونشاطه بكل هذا الوقت من حياته لا لشيء غير إيمانه بقضايا شعبه ووطنه.
فالأستاذ محمد الأمين ولد الفاظل لم يكن شخصا جاثيا خلف شاشة حاسوبه، أو مختبئا خلف أزرار لوحة مفاتيح هاتفه، أو منظرا من فوق أسطح البروج العاجية، بل كان فاعلا في الميدان وعلى كل المستويات السياسية والثقافية والاجتماعية، ورغم ما سطرت أنامله من آراء وقدم من أفكار وتحليلات ومقترحات بمعدل 3 مقالات كل أسبوع على مدى 15 عاما تناولت مختلف القضايا الوطنية.
لقد أطلق ولد الفاظل وشارك في الكثير من المبادرات الجمعوية التي غطت مختلف ميادين الحياة اليومية، ونظم عشرات التكوينات والفعاليات الرامية إلى التنوير والإصلاح وكان مرجعا للعديد من الحركات الشبابية ومنظرا للكثير من التكتلات السياسية الكبرى، ويحز في النفس استكثار بعضها عليه موقفا للترشح من خلاله للجمعية الوطنية.
عنوان الكتاب: "أيها المواطنون الصالحون أنتم المشكلة" كان ملفتا، كما قدم محتواه ما وصفه الكاتب بتشخيص الحالة المرضية للمواطنين الصالحين "الصالحون بلا فعل إصلاحي"، وهذه المفارقة العجيبة ذكرني بمداخلة ظريفة أعتقد أنها للنائب الحالي في الجمعية الوطنية المرتضى ولد اطفيل، قبل دخوله البرلمان في إحدى الفعاليات المطالبة بمحاربة الفساد واسترجاع الأموال المنهوبة، وبالمناسبة كان ولد الفاظل منسقا لها، المداخلة كانت بعنوان "داخل كل واحد منا مفسد صغير" استعرض فيها المرتضى، على ما أظن؛ نماذج من عقليات ومسلكيات المجتمع الحاضنة والممجدة للفساد (اتفكريش، الل اتول شي ظاكو.. إلى آخره).
حتى لا أطيل عليكم الكتاب جاء في مقدمة تضعه في سياقه العام وتقدم لمحة عن الكاتب ومرتكزاته ومحددات مواقفه ومبررات مواقعه، وثلاثة فصول الأول منها في نقد النخب التي ينتظر منها الإصلاح، والثاني في نقد المنتخبين، والثالث في نقد الناخبين، وخاتمة تضمنت تشخيصا دقيقا للحالة المرضية للنخب المصلحة والمواطنين الصالحين بشكل عام مع وصفة علاجية وملحق خاص بمبادرة غير تقليدية لتفعيل بعض ما ورد في وصفة العلاج.
وقد وجد الكاتب من خلال المقالات المنتقاة من قبله لإعادة النشر في الكتاب، أن النخب الصالحة، والمواطنين الصالحين، يعانون أعراضا مرضية مزمنة؛ من قبيل ضعف الانتماء الوطني؛ والاتكالية في الاصطلاح، والاستقالة من قضايا الشأن العام، والاكتفاء بالتفرج، وكأن ما يحدث في موريتانيا لا يعنيهم في شيء.
كما لاحظ عدم قدرة بعض النخب على الجمع بين تثمين ما يستحق التثمين، ونقد ما يستوجب النقد، بالإضافة إلى الخمول وغياب روح المبادرة بمفهومها الإيجابي، وعدم القدرة على خلق مساحات للعمل المشترك فيما يمكن أن يحصل عليه الاتفاق، مع قصر النفس النضالي لدى الكثير من النخب المصلحة، والانسحاب المبكر عند أول خسارة في أول معركة إصلاحية؛ ناهيك عن قلب هرم الأولويات عند كثيرين بنهم، بحيث توضع المصلحة الشخصية أولا، والحزبية ثانيا، والمصلحة العامة للبلد في أدنى الأولويات.
واستوقفني ما وصفه الكاتب بالكسل أو العجز الفكري، وعدم القدرة على إنتاج الأفكار والمقترحات؛ لدى بعض النخب، وعدم قدرتهم على الاستثمار السياسي الإيجابي لما يقع من أحداث، وغياب التأثير والفاعلية، وتغول المد الشعبوي، وقد ذكرني هذ التشخيص بنقاش دار بيني مع العميد المرحوم محمد فال ولد عمير قبل فترة من وفاته، حيث قلت له إن من أكبر المشاكل التي تواجهنا كبلد هي ندرة رجال الدولة وكثرة أشباه الساسة وضعف وعي بعض صناع قرارنا السياسي، وقصر نظرهم مستشهدا بقول أبرهام لينكولن "إن رجل الدولة يفكر بمستقبل الأجيال، ورجل السياسة يفكر بالانتخابات" فابتسم عليه رحمة الله وقال إنه ذات مرة قابل وزيرا أول في حقبة ماضية بعد فترة من تشكيل حكومته وشكى إليه ضعف وعي وزرائه السياسي.
ختاما، لا أحبذ إعادة النشر خصوصاً إذا كان المحتوى سياسيا بالدرجة الأولى، لارتباطه الوثيق بالأحداث اليومية ولاعتقادي أن التحليل والرأي لا يختلفان كثيرا عن الخبر الذي يفقد قيمته بتقادم زمنه، وفي تقديري أن الكتاب كان سيكون أكثر قيمة لو تحرر الكاتب من الارتهان للمقالات المنشورة، واستثمر كل ما لديه من معلومات وخبرة لإنتاج مادة فكرية منفصلة تماما عن ما كتب في حينه.