مع التطور الكبير في هندسة البناء مثل باقي مناحي الحياة بفضل التطور المعرفي خلال المائة سنة الأخيرة، هل من الدقة، الجزم بأن الهدم أسهل من البناء؟
من المؤكد أن القوة التدميرية للعقل البشري، قطعت أشواطا بعيدة في مجال ابتكار وسائل الدمار، كما أن سرعة تطورها تفصلها بهوة سحيقة عن تطور هندسة البناء.
ورغم أن الأخيرة تسير بشكل أبطأ إلا أنها الأبلغ تأثيرا في التطور البشري بخلاف سابقتها.
وعندما نسقط هذه الحتمية على المجال السياسي، خصوصا واقعنا المحلي، والذي يكاد يجمع المراقبون على أنه سلسلة اخفاقات متتالية، باستثناء سنوات قليلة متناثرة على مدى عمر الدولة، الحديث نسبيا.
وإذا ما رجعنا لواقعنا السياسي المعاصر، خلال المائة يوم الأولى من عمر حكومة فخامة رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني التي منح ثقة قيادتها لمعالي الوزير الأول المختار ولد أجاي، ووضعنا أداءها في كفة التقييم، لربما تتزعرع فرضية سهولة الهدم واستعصاء البناء، مع مراعاة الاختلاف، حيث يبدو البناء عملية أسهل إذا ما ارتبط بإرادة سياسية حقيقية.
إن مائة يوم في عمر دولة ما، ربما لا تكفي لاعتماد تشخيص متكامل يظهر مكامن الخلل، ويحدد المسار الصحيح الذي يجب أن ينتهج، إلا أن هذه المائة شكلت استثناء أسس لمنجز سيكون له ما بعده.
لقد استطاعت الحكومة خلال الثلاثة أشهر الماضية، تحجيم العقبة الكأداء التي أسقطت كل الاصلاحات، التي حاولت الحكومات القيام بها على مدى العقود الستة الماضية.
إن هذا العقبة تتجسد في إعادة بناء جسر الثقة بين المواطن والدولة، والذي انخرم بفعل إرث العلاقة مع دولة الاستعمار، واستفحل هذا الانخرام مع دولة الاستقلال بفعل ممارسات وأخطاء ارتكبت هنا وهناك.
لقد كان الوضوح والحسم في الوعود التي قدم معالي الوزير الأول خلال عرضه للسياسة العامة للحكومة، الأساس الذي نهضت عليه عملية بناء الثقة، رغم ما أثير حينها من لغط حول القدرة على الوفاء بهذه الوعود، في ظل غياب مؤشرات فعلية تؤكد تحسنا في الوضع الاقتصاد العالمي عموما، والوضع الاقتصادي لبلادنا على وجه التحديد، أو زيادة في الموارد المالية المستديمة للدولة.
ومع ذلك فقد تم اتخاذ إجراءات حاسمة أعادت تصحيح وجهة البوصلة، من خلال إعادة ترتيب الأولويات أولا، وسد ثغرات كانت مكمن خلل مالي، تمشيا مع البرنامج الانتخابي للمأمورية الثانية لفخامة رئيس الجمهورية، مما أثمر تعديلا للميزانية استوعب الإصلاحات الجديدة.
لكن يبقى الإجراء الأهم حتى اللحظة والذي لامس تطلعات المواطنين، هو مراجعة أسعار المواد الأساسية وتخفيضها، والوعد بمواصلة هذه المراجعة بشكل دوري والعمل على توسيع سلة هذه السلع، مع الوقوف بشكل جدي مع ضمان احترام هذه الأسعار، الأمر الذي شكل زيادة حقيقة في القدرة الشرائية للمواطن عموما، وحسن من الوضع الاقتصادي للفئات الهشة خصوصا، والتي شكل هذا التخفيض توسيعا لسلالهم الغذائية، في ظل مواصلة الدعم المقدم لهم سابقا من خلال التحويلات النقدية وغير ذلك من آليات الدعم.
لقد صاحبت هذا الإجراء سلسة إجراءات أخرى تهدف إلى تحسين أداء القطاعات الاجتماعية والإنتاجية، سورت هذه الإجراءات بإطار من تعزيز الحكامة الرشيدة.
وتوالت قاطرة العمل على تحسين أوضاع المواطنين والتي كان آخرها قبل أيام إطلاق صافرة عصرنة مدينة نواكشوط، مما يعطى الانطباع أن المأمورية الثانية ستكون بمشيئة الله مأمورية إنجاز، بعد أن نجحت المأمورية الأولى، في تحقيق صمود عز على بلدان مجاورة، في ظل الأزمات الصحية والاقتصادية والأمنية، التي عصفت بالعالم خلال السنوات الماضية.
لقد كانت النظرة الاستشرافية لفخامة رئيس الجمهورية بعيدة المدى حينما أعاد تشكيل حكومته بما يوافق طموحاته لموريتانيا خلال المأمورية الثانية وهذا ما أكدته المائة يوم الأولى للحكومة.
ورغم المؤشرات القوية على إمكانية تحقيق تحسين فعلى في الأوضاع العامة للبلد، إلا أن التحدي يبقي قائما، في ظل انعدام خلق إجماع وطني على مستوى الطيف السياسي والشعبي، على نجاعة هذه السياسات، وأسلوب تطبيقها، وحمايتها من قوى الرفض التي يضر هذا النهج بمصالحها.