على مدار الساعة

عن الدفع بعدم الدستورية

24 نوفمبر, 2024 - 21:52

أثار الدفع الذي قدمته هيئة الدفاع عن الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز بعدم دستورية صياغة المادة 2 من قانون مكافحة الفساد تعليقات عديدة، اختلفت مصادرها ومضامينها ودوافعها.وقد رأيت هذا الظرف مناسبا لتقديم أفكار عامة حول هذا الدفع غير الروتيني في ممارستنا للإجراءات القضائية (أولا)، قبل التعليق بإيجاز على بعض الآراء المثارة (ثانيا).

 

أولا: أفكار عامة حول الدفع بعدم الدستورية

 

 الدفع بعدم الدستورية هو دفع حمله ـ لأول مرة ـ القانون الدستوري الاستفتائي رقم: 022\2017 الصادر بتاريخ: 15 أغسطس 2017 من خلال إضافة فقرة جديدة إلى المادة 86 من دستور 1991 النافذ تنص على أنه: «يخول المجلس الدستوري اختصاص التعهد في شأن دعوى بعد الدستورية أثيرت أثناء محاكمة وذلك متى دفع أحد الأطراف بأن القانون الذي يتوقف عليه مآل النزاع يمس بالحقوق والحريات التي يضمنها الدستور»، وفصلت المادة 18 من الأمر القانوني رقم:04\92 الصادر بتاريخ: 18 فبراير 1992 المتضمن القانون النظامي المتعلق بالمجلس الدستوري في فقراتها الأربع الأخيرة (الجديدة) إجراءات وآجال تقديم هذا الدفع والبت فيه، مكملة بذلك النص المتعلق بالإجراءات أمام المجلس الدستوري.

 

  يختلف الدفع بعدم الدستورية عن كل الدفوع المقررة في الإجراءات أمام القضاء العادي من حيث طبيعته، و القواعدالمنظمة له، والجهة المختصة في البت فيه.

 

  ويقدم هذا الدفع من أحد أطراف الدعوى بمناسبة نزاع معروض أمام القضاء، ويجب أن تتوفر في العارض ( مقدم الدفع) الصفة والمصلحة وفقا للقواعد العامة، ويجب أن ينصب الدفع على نص قانوني يتضمن حكما ينتهك الحقوق والحريات المقررة بالدستور، ويتوقف عليه مآل النزاع المعروض (ولو سبق إلغاؤه)، وأن لا يكون سبق أن صدر بشأن النص المطعون فيه رأيا من المجلس الدستوري، إلا إذا طرأت ظروف بعد قرار المجلس بشأنه (تعديل الدستور أو التشريع) فيجوز الطعن فيه ثانية.

 

 يمكن تقديم هذا الدفع في كل حالة تكون عليها الدعوى، ولو كانت في آخر مراحلها أمام المحكمة العليا. كما يجوز تقديمها أمام المحكمة التي تنظر في النزاع بمجرد تعهدها في الدعوى ولو لم يكن مجلس الحكم منعقدا وقت تقديمها، فلا يشترط أن تقدم أثناء الجلسة، ولا أن تقدم بطريقة علنية، لأنه لا حق لأطراف الدعوى في الرد عليها لعدم توجهها إليهم، ولا يقبل منهم تقديم ملاحظات حولها، لا أمام المحكمة المثار أمامها الدفع، ولا أمام المجلس الدستوري الذي يختص ـ دون غيره ـ في البت فيها بصفته حامي الدستور من تجاوزات

 

النصوص الأدنى.

 

ليس لهذا الدفع وقت محدد، ولا ترتيب مع الدفوع الشكلية والموضوعية المعروفة في مساطر الإجراءات المدنية والجنائية، ولا يمنع تقديمه قبل الدفوع التماطلية من إثارة تلك الدفوع، لأنه من طبيعة مختلفه، وتحكمه قواعد سامية لا تجوز مواجهتها أو تعطيلها بالنصوص التشريعية والتنظيمية مهما كانت صراحتها وآمريتها. 

 

ويلخص بعض فقهاء القانون الدستوري أهداف هذا الدفع في:

 

ـ أنه يؤمن للأشخاص طريقة للولوج إلى العدالة الدستورية ويسمح للمواطن العادي بالدفاع عن حقوقه المقررة بالدستور.

 

ـ يسهم في تكريس الأمن القانوني.

 

ـ يطهر  النظام القانوني من الأحكام غير الدستورية.

 

ـ يضمن سمو الدستور على مختلف النصوص القانونية.

 

وهنا تجب ملاحظة أن هذا الدفع ـ وإن كان يهدف إلى حماية حقوق مستخدمه ـ هو وسيلة لحماية الترتيب الهرمي للقواعد القانونية، وضمان سيادة الدولة من خلال فرض وحماية سيادة دستوريها، فضلا عن كونه يمثل وسيلة ـ لا بديل عنها ـ لمنع التحكم القضائي، ولجم جموح السلطتين التشريعية والتنفيذية عن استخدام القانون  لتحقيق بعض الأغراض المخالفة للدستور والمبادئ العامة للعدالة.

 

ثانيا: التعليق على بعض الآراء المثارة حول تقديم هذا الدفع

 

لقد اجتهد المتدخلون في إثارة أسباب يرونها موجبة لعدم قبول الدفع المشار إليه أو رفضه، ومن أقوالهم:

 

ـ القول إن هذا الدفع لا يثار إلا أمام محاكم الدرجة الأولى، ويكفي من الرد على هذا القول نصح صاحبه بالاطلاع على المادة 18 من الأمر القانوني 04\92 ليـ سمع قولها: «يمكن لأي عارض أن يثير الاعتراض بعدم دستورية أي قانون أمام أية محكمة»، ويطلع على الممارسة القضائية في هذا المجال ليكتشف أن أول طعن من هذا النوع أمام القضاء الوطني قدم أمام المحكمة العليا، وفي كتابة الضبط وليس في جلسة علنية، وأن المجلس الدستوري لم يثر أي عيب بالمناسبة.

 

ـ القول إن القضاء الدستوري سبق أن اتصل بموضوع الدعوى، أي أنه سبق أن بت في النزاع بمناسبة الدفع الأول الذي قدمه دفاع الرئيس السابق أمام المحكمة الجنائية المختصة بمكافحة الفساد. وهذا القول يفتقر إلى الدقة، ذلك أن الدفع الحالي ينصب على مساس المادة 2 من قانون مكافحة الفساد بالحقوق والحريات التي ضمنها الدستور في مادتة الثالثة والتسعين لرئيس الجمهورية، سواء المتعلق منها بامتيازه القضائي (الاختصاص الشخصي ) أو عدم مسؤوليته الجنائية، و من المؤكد أن المجلس الدستوري لم يسبق له أن نظر أو بت في هذه الأحكام. وكان على أصحاب هذا القول تقديم الدليل الذي لا يمكن أن يكون سوى قرار من المجلس الدستوري في الموضوع، ولو وجد الطاعن وفريق دفاعه مثل هذا القرار لما تكلفوا عناء الدعوى الجديدة.

 

ـ القول إن المجلس الدستوري لا ينظر إلا في نص قانون كامل، وأنه لا يبحث دستورية مادة من نص قانوني بمعزل عن ذلك النص. والرد على هذا القول من شقين:

 

الأول: أن المجلس الدستوري ـ في رقابته البعدية ـ يعنى بالبحث في دستورية الأحكام التي يتضمنها النص المقدم أمامه سواء كان هذا النص مادة واحدة من قانون معين أو جميع مواد هذا القانون، أي أنه يحكم بمطابقة القاعدة القانونية التي حملها النص للدستور أو بعدم مطابقتها له، وهو غير معني إلا بالبحث إلا في حدود تعهيده، وقد تعهد المجلس الدستوري الموريتاني مرات عديدة في بحث دستورية مواد محددة من نصوص قانونية مختلفة وبت فيها دون غيرها، ولم يقل إنه بسط رقابته على باقي القانون بتلك المناسبة.  أما في الرقابة القبلية فينظر القانون المحال إليه بجميع مواده لأن ذلك هو المطلوب منه، ومع ذلك، إذا حكم بعدم مطابقة مادة مستقلة بمضمونها يتم فصلها عن باقي النص، وهذا ما صرح به القانون وبه عمل القضاء الدستوري الوطني.

 

الثاني: أن مناط تعهد المجلس الدستوري هو الدفع المقدم من العارض بعدم الدستورية، ولا صفة للعارض في الاعتراض على دستورية مواد لا يخشى تطبيقها عليه، أو لا تتضمن أحكاما تمس بحقوقه، أو لا يتوقف عليها مآل النزاع، وكل طعن من هذا القبيل سيصرح المجلس بعدم قبوله لغياب الصفة والمصلحة في مقدمه، وأن المجلس لا يمكن أن يتعهد بما لا يصح للعارض الدفع بعدم دستوريته، وعليه يكون المجلس غير مختص بالبحث في دستورية الأحكام التي لا صفة للعارض في الطعن فيها، وسيكتفي ـ لو عرضت عليه ـ بأن يصرح بعدم قبول الدفع شكلا دون النظر في مسألة المطابقة.

 

وفي الختام أسجل استغرابي من عجز البعض عن إخفاء خشيتهم من معرفة الحقيقة في كل مرة يقوم فيها الدفاع أو القضاء بخطوة نحو استجلاء حقيقة قانونية أو واقعية في هذا الملف الذي يدعون ـ وحدهم ـ أنه ملف قضائي صرف، و يبادرون ـ في مواجهة ذلك ـ إلى إطلاق أحكام لا سند لها من نص القانون، ولا الممارسة القضائية، ولا من الفقه المختص، سعيا إلى تضليل القضاء والرأي العام.

 

والله أعلم بالصواب

 

ذ/ سيدي ولد محمد فال