عرفت مدينة شنقيط بنوع من المكتبات القديمة، حيث كان أهلها يجمعون الكتب، ويضعونها في أماكن معينة من دورهم إلى أن يقوم المطالع بمطالعة ما يحتاجه من أحكام، وثقافة متخصصة، ونوادر وحكايات، وغيرها.
إن المتتبع للمسار الثقافي لمدينة شنقيط، لا يعدو الحقيقة حين يقول بأن معظم مكتباتها قد ضاع في فترات معينة من صيرورة حياتها، غير أن الاهتمام بالتراث بدأ يُظْهر بعض الضائع من تلك المكتبات، حيث أن المهتمين من ملاكها شرعوا في لملمة ما تيسر من شتاتها، ومن خلال ذلك أخذت بعض النوادر تظْهر للعيان ضمن الضائع من ذلك التراث. ومتابعة مني لهذه المكتبات الضائعة، كانت لي وقفة مع عدة منها أرجو أن أعود إلى ذلك في وقفات قادمة بحول الله.
وتقديما لمثال من ما وقفت عليه في تلك المكتبات، أتحدث اليوم عن نص نادر من نصوص المقاومة، ففي ورقة عتيقة في مكتبة أهل الحسن - رحم الله السلف وبارك في الخلف -، وقفت على نص لا يكاد يظهر منه إلا القليل، إلا أني تنخلت منه بعض الأبيات أو أنصافها، التي تبين بأنه نص من نصوص المقاومة، مجهول المؤلف ومنطمس جدا، فمن أبيات مقدمته قول الشاعر:
ثم الصلاة والسلام سَرْمَدَا *** على النبي العربي أحمدا
وهذه بداية جيدة للشاعر وخاصة شعراء هذا القطر المتشبعين بالنظرة الإسلامية، التي تعطي للمقاوم دفعة قوية في الجهاد والذب عن الوطن، وحب ترابه، لأن حب الوطن من الإيمان.
وكانت صفة النبي صلى عليه وسلم، حاضرة عند الناظم في قوله:
..بدر البداية وبحر الجود
واستمر في ذلك الوصف حتى قال:
أّجَلُّ من دَوَى القلوبَ فَشَفَا *** منْ كانَ مِنْ هَلاكِهِ علَى شَفَا
ثم عطف عليه مجموعة صحبه رضي الله عنهم، بقوله: "وصحبه شهب الدجا" الذين نعتهم بقوله: "الباذلي نفوسهم في ذات" وكرر هذه الصفات في أبيات كثيرة مطموسة.
ويحدد المقصد من قصيده ذاك بقوله: "هي نصيحة لنفسي.. ولغيره من أبناء الزمن.
وهذا دليل واضح أنه يرسل لأبناء هذا الزمن رسالة مفادها عدم الخضوع لمن أراد الشر بالوطن، ولا يتأتى ذلك إلا بالنهوض والاستفاقة من النوم حيث يقول:
"يا أيها الإنسان هَبْ من كَرَاك" واصح من سكرتك، فمتى بقيت في تلك الحالة استبيح وطنك، وداهمتك الأشرار، واستخف بك الغريب، فلا تركن إلى ذلك كله، وبدل حالتك وحالة وطنك، ورب الأجيال على ذلك، فالنسل يحمل ما ورثه الآباء:
يَحْمِلُهُ النَّسْلُ علَى الأَسْلاَفِ *** بِلاَ تَنَازُعٍ وَلاَ خِلاَفِ
وقد انتقل إلى معان طريفة تبين حالة المستعمرين الذين رمز لهم بالكفار حيث قال:
والكُفْرُ في هَوْلٍ وفي نُـــــــــــــــــــــــــفُورِ *** يَسُــــــــــــــــــــــوءُ كلَّ جَاحِدٍ كَفُورِ
احْفَظْ جُيوشَ المُسلِمينَ وانْصُرِي *** ولاَ تَنَمْ علَى مَمَرِّ الأَعْصُرِ
إن جمع المسلمين المجاهدين في صف واحد من شأنه أن يقوي شكيمتهم، ويجعلهم سدا منيعا أمام أطماع الغرباء من النصارى وغيرهم، ثم دعا عليهم بالتفرقة وطلب من الله العلي القدير أن يشتت شملهم، ويعيد كيدهم إلى نحورهم حتى يسلم الإسلام من كيدهم:
وَوَفِّقِ الجَمِيعَ لِلإِصْـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلاَحِ *** وَوَافِقِ الجميـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــعِ بِاصْطِلاَحِ
حَتَّى تَرَى الفِتْنَةَ فِي إِخْـــــــــــــــــــــــــــــــــمَادِ *** وَتَـــــــــرْجَعِ السُّيوفَ لِلأَغْمَـــــــــــــــــــــــــــــــادِ
أَنْتَ الكَرِيمُ لاَ سِوَاكَ يُرْتَــــــــــــــــــــــجَى *** فَاصْرِفْ عَنِ الإِسْلاَمِ هَذَا الهَرَجَى
مَنْ رَوَّعَ البِلادَ والأَمْـــــــــــــــــــــــــــــصَارَا *** فَانْقُلْهُ عَاجِـــــــــــــــــــــــــــلاً إلَى النَّصَارَى
وَاجْعلْهُ للْكفُارِ فِيمَا بَينَــــــــــــــــــــــــــــــهُمْ *** مُعَجِّلاً حُتُوفَهُمْ مِــــــــــــــــــــــــــــــــــــنْ حينِهِمْ
إلى أن يقول: "وابْعَثْ عَلَيهِمْ كُلَّ خَطْبٍ صَعْبِ". ثم يدعو للمسلمين والمجاهدين بقوله:
يَا رَبَّنَا وَاغْفِــــــــــــــــــــر لِوَالِدِينَا *** وَلِشُيوخِنَا المُجَـــــــــــــــــــــــاهِدِينَا
لَهُمْ وَلِلْجِيرَان وَالأَحْـــــــــــبَابِ *** وافْتَحْ مِنَ الخَيرَاتِ كُلَّ بَابِ
وَاغْفِرْ لِكُلِّ مَنْ إِلَينَا أَحْسَنَا *** وَجَازِهِ عَنَّا الجَزَاءَ الأَحْسَـــــــنَا
وَجُدْ عَلَى المُقِيمَ فِي تُرْبَتِهِ *** بِاللُّطْفِ وَالغَرِيبَ فِي غُرْبَتِهِ
إن مثل هذه النصوص الضائعة في مكتبات مدينة شنقيط، تحتاج إلى بحث دقيق لاكتشافها، ووضعها بين يدي الباحثين ليستفاد منها في التأريخ للمقاومة الثقافية في المدينة، ومن خلالها يعاد للمدينة دورها البارز في المشاركة الوطنية، والتي تجسدت من خلال تقديم مجموعة من الأسماء اللامعين، شاركوا في المقاومة ببذل أرواحهم الغالية للدفاع عن الوطن، وبعدهم قدم شباب المقاومة أشعارا وأناشيد، أبرزوا من خلالها القيمة الكبرى للاستقلال عن المعمر، وتثبيت اللحمة الوطنية، ومشاركة الجميع في بث تلك الروح الجهادية التي أقنعت الاستعمار بالانسحاب وترك البلاد حرة أبية ترفل في نعماء الخير والعافية والنماء.