هذه عزيمة على الرشد؛ الرشد الإصلاحي الذي تمثل الثقافة ركنه الأساس، فبدون الثقافة لا تكون التربية عميقة ولا السياسة نافعة، ولا الحياة الاجتماعية هنيئة، أعني الثقافة الحقة، لا الثقافة المرادفة للترفيه وكرنفالات التكريم غير المستحق، لمن نسميهم كبار الشعراء والأدباء والمثقفين، في حين أن كبرهم –غالبا- بالسن لا بالإنجاز الثقافي الفعلي.
قلة عندنا هم الذي يرابطون على ثغر الثقافة والإنتاج الثقافي والأداء الثقافي، أغلب مثقفينا ينتج كتابا واحدا أو اثنين أو رواية واحدة –مثلي- كي يثبت نسبته للحقل الثقافي، ثم يقف بقامته المزيفة صنما تجب عبادته، ويحرم لمسه، منتظرا التكريمات والتقريظات وأمسيات الزور التي يجتر فيها نفسه وإنتاجه. هناك اثنان يمكن إخراجهما من هذا الإطلاق، الدكتور إدي بن آدبه، والشاعر المختار السالم اللذان يتنافسان على الرقم الأول وطنيا في إصدار الكتب والرسائل والدواوين، وفي كل مرة يتحفون الساحة الوطنية بإصدار جديد.
كثير من مؤسساتنا الثقافية لا تنتج ثقافة جادة، كثير منها يؤسسه أصحابه ويعلنون عنه في حفل بهيج، ووعود لسانية طويلة، لكنه لا يلبث أن يسكت عن القول الثقافي، وكأنه أراد أن ينظم نفسه في سلك أصحاب المؤسسات، عنوان يمنحه كرسيا أماميا في كل نشاط لم يستطع أهله أن يجذبوا الجمهور بأدائهم المتميز، فأرادوا جذبه من خلال دغدغة نفسيات رؤساء المؤسسات الثقافية والفكرية، مبادرة اقرأ معي استثناء القاعدة.
ليس هذا وحسب، بل إن أغلب العناوين المتداولة في الأنشطة الثقافية تمتاح من بئر غائرة، وكأن جدبا في الخيال الثقافي يحيط بالمثقفين ومؤسساتهم، فتأتي الموضوعات مكررة لا جدة فيها، وباهتة لا رونق لها ولا ماء، ولذلك أسباب كثيرة، أولها ضعف التداول النقدي للمنتج الثقافي المحلي، فما يحصل مجرد أنشطة لتبادل الثناء، ثم ضعف الانفتاح على الثقافة العربية عموما، والاقتصار الممجوج على موضوعات ذات علاقة بموريتانيا، وهي موضوعات لن تكون لها قيمة ما لم تكن متفاعلة مع ما يطرح ويستجد في محيطها الثقافي العربي والإفريقي، ذلك بأن الثقافة انفتاحية طبيعةً وغايةً فإذا أريد لها الانغلاق ماتت وبهتت، ولم تؤد غايتها في التثقيف وبناء الإنسان والمجتمع والدولة.
هذه قسوة نعم، ولكنها قسوة لازمة عند البدء، فالبدايات الجادة تحتاج نقدا للماضي يؤسسها، واقتراحا للمستقبل يطورها، وعلى صالون المستقبل الثقافي تعويل كبير، فنجاحه سيكون سببا لنجاح صالونات أخرى، وفشله سيكون إعلان موت للثقافة وحراكها الوطني الباهت.
هناك أسباب عديدة تجعل التعويل على صالون المستقبل الثقافي كبيرا، أولها أنها مؤسسة تتكئ على تجربة جمعوية دعوية وثقافية عمرها أكثر من أربعين سنة، بدءا بالجمعية الثقافية الإسلامية التي ملأت الساحة وشغلت المثقفين في حينها، وهي تجربة قابلة للتطبيق في واقع اليوم في ظل وفرة الوسائل والأدوات، ومما يجعل التعويل كبيرا أن جمعية مثل المستقبل تقف خلفها نخبة من العلماء والمثقفين المخلصين الجادين جديرة بأن يستمر ويتطور ويؤثر صالونها في الساحة الثقافية، ليس هذا وحسب، بل أن يحدث ثورة عارمة في الميدان الثقافي المحلي والإقليمي.
يجب على القائمين على هذا الصالون من الزملاء والأحبة أن يعوا التحديات التي تواجههم، وقد أعلنوا للملأ عزيمتهم على الرشد الثقافي، وهي تحديات أربعة:
تحدي الاستمرار: وهو أكبر هذه التحديات، فإن كثيرا من عشاق الثقافة يتبادلون التهانئ اليوم بإعلانكم إطلاق هذا الصالون، فإياكم أن تخلفوا الوعد الثقافي فتقفوا بعد نشاط أو نشاطين، الساحة مجدبة وراكدة، ولا ريب أنكم أسستم صالونكم وأنتم واعون بهذه الحقيقة، ولكن الإنجاز هو تحريك هذا الركود وإخصاب ذلك الجدب.
تحدي المضمون: وهنا أنبه إلى ضرورة تهذيب المثقف الموريتاني بإرغامه تحضير محاضرته جيدا، فكثير من مثقفينا للأسف لا يقدم مادة نافعة للجمهور، ويعول على اسمه وسمعته، فلابد من تهذيبه الصارم، فالشباب يبحث عن الفائدة والعلم والثقافة لا عن اليوميات المغسولة و"التكراح" البائس، وإياكم أن تغركم الأسماء الكبيرة فإنها -غالبا- مصابة بداء العجز عن الإنجاز، والتغذي على ماضيها السحيق.
ثم إني أعيذكم من المحاضرات المناقبية، فالمناقب ورد ذاتي لا نشاط جمعوي، أتمنى أن أرى صالونا يناقش منهج آب ولد اخطور، لا مناقب آبه، وأسلوب محمد مولود (آدَه) لا مناقبه، ويطرح عبقرية جمال من خلال إنتاجه، لا من خلال ذكريات أصدقائه وطلبته، ويذكر الشيخ محمدو النانة بن المعلى من خلال قراءة نقدية حقيقية جادة لإنتاجه وغير ذلك.
أنصحكم بالاهتمام بالثقافة العامة، وتنظيم صالونات حول قضايا ثقافية وفكرية بحتة، فإن مقتل المؤسسات الثقافية عندنا دائما هو إفرادها منابرها الثقافية لموضوعات لا يهتم بها المثقف القارئ، وإنما تهم السياسي والنقابي والباحث الاجتماعي، فلو دعوتني لنشاط عن قضايا الساحل لن أحضر هذا النشاط –ولعل كثيرين مثلي لن يحضروه- ولكن إذا دعوتني لنشاط يقرأ كتاب البادية للشيخ محمد المامي قراءة واعية نقدية جريئة لكنت أول الحاضرين، وكذلك كثيرون مثلي، دعوا تلك القضايا للقنوات الفارغة ومراكز الدراسات الباحثة عن التمويل، واشتغلوا ببناء الوعي الثقافي الحقيقي من خلال مناقشة الأفكار.
تحدي المحلية المهلكة: وهو تحد كبير، وتجاوزه صعب، فقد كبر عليه الصغير وشاب عليه الكبير، وهو مقتل ساحتنا الثقافية الذي أماتها، سر ضعف الوعي الثقافي والفكري لنخبنا الناشئة والوسيطة، إن الثقافة –كما قلت في بداية هذا المقال- انفتاحية بطبيعتها، وأضيف هنا أن غاياتها تهذيب النفس وبناء العقل، وهذا مشترك إنساني لا قضية محلية، فيا فرحتي يوم أجد عنوانا لصالونكم يناقش أدب الرافعي، وآخر ينتقد كتابات محمد شكري، وثالث يبحث موسوعة كاجيري عن مالي وممالكها القديمة، ورابع يطرح قضية الذكاء الاصطناعي وتحدياته، انظرو حولكم وفوقكم ودعوا إدمان النظر إلى هذه الأرض، فإن جمالها ليس ذاتيا ولكنه جمال أخذته من سياقها العالمي والعربي والإفريقي.
تحدي الجمهور: ينبغي أن لا تتفاجؤوا من قلة الجمهور، فالتداول الثقافي والفكري ليس مهرجانات الهتاف والإنشاد، المعول فيه على المضمون ورقي التداول وقوة الطرح وصراحة النقد، ويوما بعد يوم ستجتذبون النخبة الشبابية والمكتهلة، وفي تجربة مبادرة اقرأ معي نموذج صالح، فقد بدأت وواصلت وقل جمهورها فترة ثم ظلت تتحدى التحديات حتى جعلت لنفسها جمهورا معتبرا، يترقب مناشطها، ويرتاد مكتبتها، ويتداول الثقافة والفكر في فضائها.
تعالوا بنا لنحرق الطوب معا، قبل أن ينهار بناؤنا الاجتماعي وكياننا السياسي، فقد قال الكاتي انطوني تشيخوف: " بدون شعب مُثقف ثقافة واسعة ستنهار الدولة كالبيت المشيد من طوب لم يُحرق جيدًا"، إذن أنتم من أعلن بداية حرق الطوب، فلتواصلوا حرقه، لنستمع ببناء قوي متين.
أخير، أعود كما بدأت لأقول لنا هنيئا لنا بهذا الصالون الثقافي، وأقول لكم لقد بدأتم العزيمة على الرشد الثقافي وما زلنا ننتظر منكم "الثبات في الأمر"، اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد.