أن يتكلم فخامة رئيس الجمهورية عن مشاركة الجميع في التحول المجتمعي المنشود أمام قادة المنظمات الثقافية العالمية والإقليمية، وفي عاصمتنا الثقافية التاريخية "مدينة شنقيط"، وبين صفوة من الباحثين والمفكرين وقادة الرأي، فذلك أمر يستحق منا جميعا أن نتوقف عنده، وأن يساهم كل منا من جانبه في توضيحه.. ولكن عن أي تحول مجتمعي يتحدث صاحب الفخامة؟.
لاشك أن الكلام كان صريحا وواضحا، فالرجل يتكلم عن ضرورة تعزيز الوحدة الوطنية، ومحاربة الصور النمطية البالية القائمة على الطبقية.. إن الأمر يتعلق بتغيير العقليات.
إن دعوة رئيس الجمهورية لمشاركة الجميع قائمة على وعي عميق بأن حجم التغيير المجتمعي المنشود لا تكفي فيه الإرادة السياسية الجادة وحدها، وهو ليس من الأمور التي تتخذ قراراتها في اجتماع مجلس الوزراء، ولا تصدر بالقوانين والمراسيم، فالأمر أعظم وأجل من ذلك. ومن هنا كانت دعوة رئيس الجمهورية لمشاركة الجميع.
إن التحول المجتمعي أو ما يسمى في السوسيولوجيا بالتحديث أو التغير الاجتماعي، هو موضوع سال حوله حبر كثير، وهو جوهر القضايا التي تناولها الفلاسفة منذ جمهورية أفلاطون ومدينة الفارابي الفاضلة، وهو محور دعوات الأنبياء والمصلحين، وهوالإشكال الأكبر الذي تدور حوله فلسفة الحضارة والعلوم الاجتماعية إلى اليوم.
لن ندخل هنا في السجال الكبير بين "ماركس" و"ماكس فيبر"، بين من يرى أن القيم الثقافية هي العامل الأهم في التغيير، وبين من يجزم بأن تغيير ظروف الناس "نمط إنتاجهم" أو بالعبارة الخلدونية "نحلة معاشهم" هو سبب التحولات الاجتماعية الكبرى.
إن ما يشير إليه فخامة رئيس الجمهورية هو ما رصده مؤسس علم الاجتماع الفرنسي "أميل دوركيم" وهو معاندة الظاهرة الاجتماعية لإرادتنا وصلابتها التي تقهرنا أحيانا.
فرغم الدستور والقوانين والديمقراطية مازالت قيم قديمة تعود إلى البنية الطبقية والتقاليد القبلية ما قبل الدولة حاضرة في لغتنا وخطاباتنا إلى اليوم.
لن نقول هنا مع "كارل بوبر" في كتابه "عقم المذهب التاريخي" إن التحولات الاجتماعية ليست أمرا هندسيا قابلا للتخطيط، ولكننا نعلم بالمشاهدة أن حوادث مناخية مثل الجفاف مثلا كان لها دور أكبر من كل الخطط والقوانين في تهشيم الممارسات الاسترقاقية في مجتمعنا.
لقد حاول "دي شاسيه" أن يرسم لوحة للتحولات الاجتماعية التي عرفها المجتمع الموريتاني بتأثير الإدارة الاستعمارية، والمدرسة الفرنسية، واستخراج المعادن، ولكنه توقف قبل ضربة الجفاف القاضية.
إن التحولات الاجتماعية العالمية التي خلفتها "حضارة الموجة الثالثة" كما يسميها "ألفن توفلر" أي تأثيرات الشريحة الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي، أدخلتنا في دوامة لا نكاد نلتقط فيها أنفاسنا حتى تفاجئنا بأمور أخطر وأعمق مثل الذكاء الصناعي وما أدراك ما الذكاء الصناعي.
إن التحولات الاجتماعية العميقة تجري رغما عنا بخطى متسارعة، ومع ذلك فإن عالم القيم والعقليات في مجتمعنا يسير ببطء كبير مشدوها أمام فجوة التقدم العلمي المجنون.
في العالم كله هناك خطط وأهداف أممية للتنمية، كما أن في بلادنا خططا متنوعة واستراتيجيات للنمو المتسارع والرفاه المشترك، إلا أننا لا نبالغ إذا قلنا إن أهم استجابة تنموية قامت بها السلطات الموريتانية في السنوات الأخيرة لمواكبة التحول المجتمعي المنشود هي مشروع المدرسة الجمهورية الطموح.
ورغم اكتتاب آلاف المدرسين من قبل الدولة فإن المشروع اليوم بحاجة إلى أن يصبح بحق محور سياسات الحكومة، وذلك بمضاعفة الموارد الموجهة إليه، فلابد أن يختفي الازدحام في الفصول وأن تصبح مهنة التدريس مغرية ومحل تقدير مادي ومعنوي.
إن معظم نظريات التغير الاجتماعي مجمعة على أن تغيير نمط عيش الناس ومعارفهم هو بوابة التحول المجتمعي المنشود. وإذا كانت المدرسة الجمهورية- إذا ما رعيناها حق رعايتها- بوابة مضمونة لتعزيزالوحدة الوطنية وتغيير العقليات، فإن وضع خطط جادة لتحويل الاقتصاد الوطني من اقتصاد ريعي يعتمد عائدات المواد الأولية إلى اقتصاد إنتاجي تضيف إليه المعرفة والمهارة قيمة مضافة، هو بوابة تغيير دائم وعميق يمس معايير الترقي في السلم الاجتماعي بناء على الكفاءة والإنجاز بعيدا عن معادلة الولاء مقابل العطاء.
إن التحول المجتمعي يجري رغما عنا وبسرعات متفاوتة في جوانبه المادية والثقافية، وإن ترشيد هذا التحول وتوجيهه بما يخدم تقدم المجتمع وتماسك نسيجه الاجتماعي وبنياته الرمزية يحتاج مشاركة الجميع.
تلكم هي رسالة خطاب شنقيط، وهذه مساهمة متواضعة لإنارة جانب منها بسيط.