في 23 ديسمبر 1946، شهدت موريتانيا حدثًا فارقًا في تاريخها السياسي والاجتماعي، حيث أصدر المجلس العام لموريتانيا بيانًا يعتبر بداية تحول الوعي الوطني في البلاد، ورغم أن البيان في ظاهره كان تعبيرًا عن الولاء للنظام الاستعماري الفرنسي، إلا أنه في باطنه جسّد بداية مرحلة جديدة من المطالبة بالاستقلال، لم يكن البيان مجرد إعلان سياسي، بل كان بمثابة مؤشر على دور النخب المحلية المتزايد في التأثير على السياسات الاستعمارية، وفي الوقت نفسه يمثل بداية نشوء الوعي الوطني الذي سيتطور ليقود البلاد نحو استقلالها.
البيان: ولاء أم بداية التغيير؟
في تلك اللحظة التاريخية، كان المجلس العام لموريتانيا قد بدأ أولى جلساته في مدينة سان لويس، عاصمة إقليم موريتانيا آنذاك، وفي هذه الجلسة أقر المجلس بالإجماع بيانًا جاء فيه أن "مصير موريتانيا مرتبط إلى الأبد بمصير فرنسا"، وعلى الرغم من أن هذا البيان بدا ظاهريًا تعبيرًا عن ولاء كامل للسلطة الاستعمارية، إلا أنه كان أكثر من مجرد كلمات رسمية، كان يمثل اعترافًا صريحًا بالعلاقة الوثيقة بين موريتانيا وفرنسا، ولكن أيضًا كان انعكاسًا للواقع المعقد في تلك الفترة، حيث كانت النخب المحلية ترى في هذه العلاقة ضمانًا للاستقرار السياسي والاقتصادي، في حين كانت السلطات الاستعمارية تروج لنفسها كـ "راعي للحضارة".
لكن مع مرور الوقت، أصبح من الواضح أن هذا الولاء لم يكن سوى مرحلة مؤقتة، وأنه كان في طياته تطلعات نحو التغيير والتحرر، بينما كانت النخب السياسية تتكيف مع النظام الاستعماري، كانت هناك رغبة خفية في تحقيق استقلال سياسي تدريجي، وهو ما سيظهر بوضوح في المراحل القادمة من تاريخ البلاد.
المجلس العام: تمثيل شكلي وصلاحيات محدودة
بعد الحرب العالمية الثانية، تم إنشاء المجلس العام لموريتانيا ليكون بمثابة هيئة استشارية لا تملك صلاحيات تنفيذية، كانت مهمته الرئيسية تقديم التوصيات حول القضايا المحلية، لكن لم يكن يمتلك أي سلطة فعلية على اتخاذ القرارات المصيرية، بالنسبة للاستعمار الفرنسي كان المجلس العام مجرد أداة لتخفيف التوترات الوطنية ومنح النخب المحلية شعورًا بالتمثيل السياسي ضمن النظام الاستعماري.
ورغم أن المجلس لم يكن يمتلك صلاحيات حقيقية، فإن دوره كان يحمل في طياته بذور التغيير، فعلى الرغم من تكيف النخب الموريتانية مع هذا النظام، إلا أنها كانت تدرك أن التعاون مع السلطات الاستعمارية لا يعني الرضا التام، بل كان يهدف إلى تعزيز المكاسب السياسية المستقبلية.
التحولات السياسية: من الولاء إلى المطالبة بالاستقلال
مع مرور الوقت، بدأت الساحة السياسية الموريتانية تشهد تغييرات جذرية، في عام 1946 تأسس حزب الاتحاد التقدمي الموريتاني، الذي مثل مصالح النخب الموالية للسلطة الاستعمارية، وكان يعكس رغبة هذه النخب في تعزيز مكانتها الاقتصادية والسياسية داخل المنظومة الاستعمارية، لكن مع مرور الوقت، بدأت تظهر رغبة قوية في التحول إلى المطالبة بالاستقلال، وفي عام 1950 تم تأسيس حزب الوفاق الموريتاني، الذي مثل قطاعًا آخر من المجتمع، خاصة للفئات المتعلمة من كتاب ومترجمين ومعلمين، وعلى الرغم من أن الحزب حافظ على ولائه للسلطات الفرنسية في البداية، إلا أنه سرعان ما تحول إلى نقطة انطلاق لمطالب سياسية أكبر، مع تنامي الرفض للاستعمار الفرنسي.
في بداية الخمسينات، بدأ صوت المطالب بالاستقلال يرتفع تدريجيًا، وبدأت هذه المطالب تعكس تطورًا في الوعي الوطني، ففي هذه المرحلة، كانت الهيمنة الاستعمارية تُعتبر قيدًا أمام تقدم البلاد وتحقيق سيادتها السياسية والاقتصادية.
الخمسينات: مرحلة التحول نحو الاستقلال
مع بداية الخمسينات، دخلت موريتانيا مرحلة جديدة من التحولات السياسية، بدأت الأحزاب الوطنية تشهد تحولات جذرية، وتزايد تأثير الحركات المناهضة للاستعمار، كان حزب الاتحاد التقدمي الموريتاني، الذي كان يمثل النخب الموالية للاستعمار قد شهد تحولًا ملحوظًا، ففي عام 1958 اندمج مع حزب الوفاق الموريتاني ليشكلا حزب التجمع الموريتاني، وهو ما أسهم في تكوين قاعدة جماهيرية واسعة طالبت بالاستقلال، وبالتزامن مع هذه التحولات السياسية، نشأت حركات وطنية أخرى مثل حزب النهضة الوطنية، الذي طالب بالاستقلال التام عن فرنسا.
الاستقلال: نقطة التحول الكبرى
في 28 نوفمبر 1960، حققت موريتانيا استقلالها الكامل بعد مسار طويل من النضال السياسي، وكان هذا الإنجاز قد بدأ في 18 أكتوبر من نفس العام، عندما تم توقيع وثيقة الاستقلال في باريس من قبل الوزير الأول والأمين العام لحزب التجمع الموريتاني الأستاذ المختار ولد داداه، هذا الحدث شكل بداية عهد جديد من السيادة الوطنية، ليكون تتويجًا لمرحلة طويلة من التحولات السياسية التي بدأت مع بيان المجلس العام في 1946، الذي مثل أولى خطوات الانتقال من الولاء الاستعماري إلى المطالبة بالاستقلال التام.
الخاتمة: دروس من الماضي وآفاق المستقبل
اليوم بعد أكثر من 78 عامًا على صدور بيان ديسمبر 1946، يمكننا أن نرى بوضوح أن تلك الفترة كانت نقطة انطلاق أساسية نحو بناء الهوية الوطنية لموريتانيا، رغم أن البيان كان يهدف إلى تأكيد الولاء للسلطة الاستعمارية، إلا أنه كان أيضًا بداية التحول نحو المطالبة بالاستقلال، وتجسدت هذه المطالب في تأسيس الأحزاب الوطنية وتصاعد الوعي الوطني، مما أدى في النهاية إلى تحقيق الاستقلال في عام 1960.
ما يعكسه هذا المسار التاريخي هو أن النضال من أجل الحرية والسيادة ليس عملية فورية، بل هو مسار طويل مليء بالتحديات، يبدأ من خطوات صغيرة ولكنه يفضي في النهاية إلى تحقيق الأهداف الكبرى.