على مدار الساعة

المجلس الوطني الاستشاري: خطوة غير مكتملة نحو التحول الديمقراطي في موريتانيا

10 يناير, 2025 - 01:19
محمد سالم ولد لكبار

مع حركة العاشر من يوليو 1978 التي أطاحت بنظام الرئيس المختار ولد داداه، دخلت موريتانيا مرحلة سياسية جديدة سيطر فيها العسكريون على الحكم، وأدى ذلك إلى تعمق الأزمات السياسية والاجتماعية، وسط مطالب متزايدة بضرورة التحول نحو حكم مدني ينهي هيمنة المؤسسة العسكرية ويعيد الاستقرار إلى البلاد، في هذا الإطار برز مشروع المجلس الاستشاري الوطني كمحاولة لإيجاد صيغة توافقية بين المدنيين والعسكريين، لكنه سرعان ما أُجهض، ليصبح مثالاً لمحاولات الإصلاح السياسي غير المكتملة في تاريخ موريتانيا.

 

تأسيس المجلس الاستشاري الوطني: خطوة نحو الشراكة السياسية:

في يوم 29 مارس 1979، صدر الأمر القانوني رقم: 060 - 79، الذي أنشأ المجلس الاستشاري الوطني كهيئة استشارية تتبع مباشرة للجنة العسكرية للخلاص الوطني، يهدف المجلس إلى تمهيد الطريق لتحول مدني عبر تقديم المشورة في القضايا الوطنية المهمة، مع وعد بتقليص هيمنة العسكريين تدريجياً على مفاصل الحكم.

 

حدد القانون تكوين المجلس بـ98 عضواً، لكن لم ينص على آلية واضحة لاختيارهم، ما فتح المجال لانتقادات واسعة حول مدى شفافية التعيينات وعدالتها، كما أوكلت إدارة المجلس إلى مكتب تنفيذي يتألف من رئيس، و ثلاثة نواب للرئيس، وثلاثة مقررين، وكان تعيين رئيس المجلس أعضاء المكتب بموجب مرسوم صادر عن رئيس اللجنة العسكرية، مع تحديد نظام خاص ينظم سير العمل.

 

تحفظات واعتراضات: عقبات منذ البداية:

رغم الطموحات الكبيرة التي رافقت تأسيس المجلس، إلا أن المشروع واجه تحفظات واعتراضات من عدة جهات:

 

القيادات التقليدية:

أثار تمثيل الولايات داخل المجلس انتقادات واسعة، حيث رأت بعض القبائل والمناطق أن التوزيع غير عادل، مما عزز الشعور بالتهميش.

 

قيادات اللجنة العسكرية:

ظهرت معارضة قوية داخل اللجنة العسكرية نفسها، حيث رفض ثلاثة من أبرز أعضائها - المقدم محمد خونا ولد هيداله، والرائد تيام الحاج، والرائد آتيي همات - فكرة المجلس، هؤلاء الضباط أرسلوا رسالة واضحة إلى الرئيس المصطفى ولد محمد السالك، اعتبروا فيها أن البلاد غير مهيأة للديمقراطية، وأن استمرار المجلس يهدد استقرار مشروع العاشر من يوليو.

 

انعقاد الجلسة الأولى والأخيرة: انهيار سريع للمشروع:

عقد المجلس الاستشاري الوطني أولى جلساته مساء يوم 5 أبريل 1979، بحضور عدد من أعضاء اللجنة العسكرية وشخصيات سياسية ومدنية، كان الهدف من الجلسة هو تحديد ملامح العمل المستقبلي للمجلس، لكن الأحداث السياسية المتسارعة حالت دون استمرار المشروع.

 

في صباح اليوم التالي، 6 أبريل 1979، أصدرت اللجنة العسكرية ميثاقاً دستورياً جديداً غيّرت بموجبه اسمها إلى اللجنة العسكرية للخلاص الوطني، ومنحت جميع الصلاحيات التنفيذية للوزير الأول، الذي أصبح المقدم أحمد ولد بوسيف، تضمن الميثاق تجريد الرئيس المصطفى ولد محمد السالك من صلاحياته، وحل المجلس الاستشاري الوطني بموجب المادة الثانية من الميثاق.

 

تحليل التجربة: دروس من الفشل:

يُظهر فشل المجلس الاستشاري الوطني عدة مؤشرات على الصعوبات التي واجهتها موريتانيا في الانتقال من الحكم العسكري إلى الحياة المدنية:

1. غياب التوافق السياسي: عكست تجربة المجلس الانقسامات العميقة داخل القيادة العسكرية نفسها، وعدم قدرتها على تبني رؤية موحدة للتحول الديمقراطي.

2. التوزيع غير المتوازن للتمثيل: ساهمت الانتقادات المتعلقة بعدالة توزيع المقاعد في فقدان المجلس لأي دعم شعبي أو سياسي حقيقي.

3. الظرف السياسي غير المواتي: تأسيس المجلس جاء في ظل انعدام الثقة بين المدنيين والعسكريين، ما جعله عرضة للانهيار عند أول اختبار حقيقي.

 

دروس مستفادة ومستقبل التحول المدني:

تمثل تجربة المجلس الوطني الاستشاري درساً مهماً في التاريخ السياسي لموريتانيا، حيث كشفت أن التحول نحو الديمقراطية لا يمكن تحقيقه دون توافق سياسي واجتماعي، كما أكدت أن أي محاولة للانتقال المدني تتطلب توفير بيئة سياسية مستقرة، وإرادة حقيقية لدى مختلف الأطراف لتحقيق هذا الهدف.

 

ورغم مرور عقود على هذه التجربة، إلا أن موريتانيا ما تزال تواجه تحديات كبيرة في بناء نظام سياسي يوازن بين المدنيين والعسكريين، ويحقق تطلعات الشعب نحو حياة ديمقراطية مستقرة.

 

خاتمة:

تُظهر تجربة المجلس الاستشاري الوطني، أن التحول الديمقراطي في موريتانيا كان، وما زال، عملية شاقة مليئة بالتحديات، وبينما تمثل هذه المحاولة إحدى المحطات الفاشلة في هذا المسار، فإنها تشكل أيضاً إرثاً سياسياً يجب فهمه وتحليله لاستخلاص الدروس، لضمان مستقبل أفضل تتعزز فيه قيم الديمقراطية والتشارك السياسي.