على مدار الساعة

حرب الرّهانات.. من يصمد أطول يكسب المعركة

19 يناير, 2025 - 14:16
يحي عابدين

بدأت المقاومة معركة الطوفان، ببسالة وشجاعة وإقدام منقطع النظير، وثبتت طوال الحرب ثبات الجبال الراسيات، وأظهرت مدى صلابة العلاقة بينها وبين أبناء شعبها الذي ظلّ صامدا وثابتا هو الآخر، رغم الجوع والدمار والخراب وبطش آلة القتل الصّهيونية، أمام مرأى ومسمع من إخوانهم والعالم أجمع دون أن يحركوا ساكنا، في مشهد مخز ومخجل وعار لا يمحى إلى يوم الدّين.

 

وها هي المقاومة تختم معركتها اليوم بنصرٍ كما بدأت، لا ضعف ولا استكانة ولا استسلام، بل صبر وثبات وجلد وقوة، لتتوج بذلك نصرا ينضاف لنصر السابع من أكتوبر المجيد، وتحافظ على مكتسباته.

 

فقد استسلم العدوّ وأيس من تحقيق أهدافه التي طالما أعلنها وتعهد بتنفيذها بكلّ عنجهية؛ فوقّع مرغما على شروط المقاومة، ورجع يجر أذيال الخيبة لشعبه وحلفه {لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.

 

قد يقول قائل سرعان ما وصلت لهذه الخلاصة ورتبت عليها هذه النتيجة، فأين الدّليل؟ {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}.

 

يدرك كلّ العقلاء أنّ للنّصر صورا مختلفة، لكنّهم يجمعون على أنّ أهمّ بند من بنوده وأوضح صورة من صوره: "الثبات على المبادئ وكسب الرّهانات" فقد تقتل منتصرا، وقد تحتل أرضا وأنت مهزوم.

 

طيب، لنرجع قليلا إلى الوراء لنستذكر معا، ماذا أرادت المقاومة من الطّوفان، وماذا أراد العدوّ من حربه على غزّة؟

 

نبدأ بما بدأ الله به:

أرادت المقاومة من معركة السابع من أكتوبر المجيد أن تُريَ أمتها والعالم أجمع الأمور التّالية:

  1. أنّ المغتصب لن ينعم بالأمان وأن المحتل لن يعيش بسلام، فكان ما أرادت.
  2. أنّ بنيان دولة الكيان وجيشها الذي قالوا إنه لا يقهر والذي ترتعد منه عروش الملوك والرؤساء في منطقتنا العربية والإسلامية، أوهن من بيت العنكبوت لو كانوا يعلمون!

 

وقد أثبتت المقاومة ذلك بلغة الأفعال قبل الأقوال، فاقتحمت عليهم الأسوار ودخلت عليهم الأبواب، فقتلت الحراس واقتادت الجنود من داخل دباباتهم أذلة صاغرين وعبثت بمعداتهم ومقتنياتهم، وأسرت منهم العشرات، في مشهد بطولي وثقته عدسات الكاميرات، وسيظل محفورا في ذاكرة الأجيال إلى أبد الآبدين.

 

  1. أنّ القضية الفلسطينية، قضية أمة برمتها وقضية شعب جبّار لا يقهر ولا يعرف الاستسلام فلا يمكن أن تموت، ولا أن تكون قضية ثانوية تتلاعب بها قوى الاستكبار العالمية، وقد رأيتم كيف عادت القضية لألقها وكيف صار حضورها، فلم يبقى في هذا العالم بيت وبر ولا مدر إلا دخلته بعزّ عزيز وذلّ ذليل.

 

  1.  أنّ مواصلة مشروع التّطبيع غير ممكنة، وأنّ الرّهان على المطبعين خاسر لا محالة، وقد رأيتم كيف ابتلع الطوفان مشروع التّطبيع، وكيف أخزى الله به رؤوس النّفاق والشقاق، وكيف أحيا به نفس الجهاد والمقاومة في شعوب الأمة كلِّها من مشرقها إلى مغربها.

 

  1. أن تعيد توحيد الأمة وتجسد حديث "الجسد الواحد" على أرض الواقع، فأرتهم من قوّة عزيمتها وشدّة بأسها على الأعداء وثباتها أمام شدّة الابتلاء، ما أزال عن كثير من شبابها ونسائها ورجالها غشاوة الخوف وبعث فيهم الأمل من جديد، فهتفوا باسمها في المساجد والمدارس والجامعات، وخرجوا بالمليونيات في الشوارع والساحات، وقدموا الغالي والنّفيس في ذلك؛ وقد أكرمنا الله في موريتانيا بأن كان لنا قدم السّبق في البذل بالمال والتّضحية بالجهد والوقت، فكنّا الدولة الوحيدة في المنطقة التي جمعت بين الموقف الرسميّ والشعبيّ المناصر للمقاومة، وغير المساوم عليها، وبين كثافة البرامج التعبوية والأنشطة الجماهيرية، التي لم يخل منها أسبوع واحد من بداية المعركة إلى نهايتها، بل وحتى يوم واحد في بعض الفترات، ومع ذلك تصدرنا أيضا قوائم المتبرّعين بالمال، وقد رأيتم التنافس القبليّ المجيد في ذلك؛ فلله الحمد من قبل ومن بعد، فهذا من فضل الله وبتوفيقه، وهو بالمناسبة لا يمثل جزءا يسيرا ممّا يستحقه علينا إخواننا في غزّة، ولا هو يسدد مثقال ذرة من ديْن المقاومة التي تنافح وتكافح عن مقدساتنا في أطهر بقعة، فهو جزء يسير من دينها الذي تطوق به أعناقنا.

 

في المقابل ماذا كان يريد الكيان من حربه على غزّة؟ وما هي أهدافه؟ هل قال بأنه يهدف إلى مجرد قتل النّساء والأطفال وتدمير المستشفيات؟ لا بل قال قادته المعتوهين وبكل عنجهية وفجاحة وأمام الكاميرات، بأنّ أهدافهم تتمثل في الآتي:

  1. القضاء على المقاومة وتدمير قدراتها العسكرية، فهل انكسرت المقاومة أحرى أن تكون قد انتهت؟ اللّهم لا.

 

  1. تفكيك شبكة الخنادق، التي كانت ولا زالت تمثل لغزا محيرا للصديق والعدوّ معا، فهل تحقّق هذا الوعد؟ اللهم لا.

 

  1. القضاء على حماس، وأنّ اليوم التالي للحرب لن تكون حماس جزءا من حساباته، فهل تحقّق هذا؟ اللهم لا.

 

  1. تهجير شعب غزّة، وتشريدهم في الخارج إذا لم يسلموا قادة المقاومة، فهل تحقّق هذا؟ اللهم لا.

 

  1. تحرير الأسرى أحياء تحت قوّة السلاح ودون مفاوضة، فهل تحقّق هذا؟ اللهم لا.  وهذا بشهادة العدوّ وقادته.

 

فمن كسب الرّهان؟ وأيّ الفريقين أحقّ بأن يوصف بأنه المنتصر؟

 

لقد أثبتت تلك الثلة المؤمنة الصابرة المحتسبة في غزّة العزّة، أنّ الله معهم، وأنّ بيضة الأمة لا تستباح فعلا، لتحقّق بذلك وعد الصادق المصدوق (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم).

 

فقد تلاقت إرادة الشعب الغزّاويّ القرآنيّ مع إرادة مقاومته المقاتلة وتلك المفاوضة، فشكلوا كتلة صلبة واحدة، ظلت صامدة ومتحدة، تقاتل معا وتقدم التضحيات الجسام معا، ويرتقي منهم الشهداء الأفذاذ معا، فلا هؤلاء ضعفوا أو استسلموا، ولا أولئك خذلوا أو ناموا.

 

يستوي في ذلك أسود الوغى في الداخل، وأبطال المفاوضة في الخارج؛ في مشهد تكامليّ يبعث على الفخر والعزّة ويحيي الأمل، ويفتح الباب على مصراعيه أمام أحرار الأمة وطلاب الحرية في كلّ مكان، ليحذوا حذوهم ويهتدوا بهديهم ويقتبسوا من نورهم.. فهل أنتم مهتدون؟

 

وخلاصة الخلاصة: أنّه ما ضاع حقّ وراءه مطالب، وما خاب رهان من كان الجهاد سبيله، والقوّة وسيلته، والله رجاءه والجنّة مبتغاه.