على مدار الساعة

نظرية الحصان الميت.. مصنع ألبان النعمة نموذجًا

20 يناير, 2025 - 14:02
المهندس: الهيبة سيد الخير

في عالم إدارة المشاريع واستراتيجيات التنمية، تُعد نظرية "الحصان الميت" استعارة بليغة لفهم كيفية التعامل مع المشاريع غير المجدية، وتبين هذه النظرية أن الإصرار على حلول غير واقعية في هذه الحالات لا يؤدي سوى إلى هدر الموارد وتعقيد المشكلات بدلًا من حلها.

 

يمكن أن تُعتبر قصة مصنع ألبان النعمة مثالًا واقعيًا لهذه النظرية في بلادنا، حيث أُهدرت مبالغ طائلة على مدار سنوات في محاولات يائسة لإنجاح مشروع بدأ بمقدمات خاطئة.

 

هناك حكمة قديمة منقولة عن قبيلة داكوتا الهندية تقول: "إذا اكتشفت أنك تركب حصانًا ميتًا، فإن أفضل استراتيجية هي النزول عنه". وبالرغم من بداهة هذا الخيار، إلا أن البعض يعجز عن اتخاذه، فيلجأ مثلا لتغيير علف الحصان أو استبدال سائسه أو حتى إجراء دراسات لفهم سبب تعثّره، هذا السلوك هو جوهر نظرية "الحصان الميت".

 

المفارقة العجيبة أن تمويل المصنع مصدره قرض من بنك هندي ندفع أقساطه اليوم، بينما حل مشكلته خيار نصحت به قبيلة هندية قبل قرون.

 

الواقع يتطابق مع التحذيرات السابقة

عندما تم تدشين مصنع ألبان النعمة في عام 2016، حذّرتُ في مقالٍ حينها من المشكلات الجوهرية التي قد تعيق نجاح هذا المشروع، حيث أشرتُ إلى أن تخطيط المشروع اعتمد على بيانات مغلوطة ورؤية تخطيطية غير واقعية، وقد كان من الواضح أن المصنع لن يعمل بالكفاءة المطلوبة، بسبب طبيعة الإنتاج الحيواني في المنطقة التي تعتمد على أنماط انتجاع موسمية وغياب البنية التحتية الداعمة لتوفير الحليب بشكل مستدام على مدار العام، هذا فضلا عن عدم نجاعة القطاع العام في إدارة مشاريع من هذا القبيل.

 

ورغم التحذيرات، استمرت الجهود لتحسين المشروع، وتم إنفاق أموال ضخمة منذ عام 2016 وحتى اليوم، لكن هذه الجهود تجاهلت المشكلة الأساسية المتمثلة في عدم توفر الحليب بالمستوي الكافي لتشغيل المصنع، وبدلًا من معالجة هذه المشكلة الجوهرية، لجأت الجهات المعنية إلى حلول عبثية تُجسد استراتيجيات "الحصان الميت"، مثل:

- الاعتماد على الحليب المجفف المستورد؛

- إنشاء خطوط إنتاج جديدة؛

- إجراء دراسات متعددة؛

- تسخير جهود مشاريع تنموية عديدة دون جدوى.

 

مصير المصنع

تستورد البلاد كميات هائلة من الألبان ومشتقاتها، بينما تملك فائضا من اللحوم وتصدر أعدادا كبيرة من رؤوس الماشية، وسبب هذا التباين يعود لطبيعة منتج الحليب الذي يتلف بسرعة، هذا فضلا عن ارتباطه بالمراعي الطبيعية بعيدا عن مصانع الإنتاج، حيث يتم هدره بشكل كبير.

 

ولحل هذه المشكلة لا بد من إبقاء القطعان قريبة من المصانع، وهذا يحتاج بطبيعة الحال لتوفر الأعلاف المنتجة في المزارع المروية في منطقة الضفة وكبسها لتصبح قابلة للنقل وتوفيرها للقطعان حول المصنع، وقبل تحقيق ذلك الشرط، فلن يكون أمام المصنع سوى التفكيك والتنازل عنه للقطاع الخاص، تماما مثل ما حدث مع مصنع ألبان العيون.

 

ما تعلمناه من "الحصان الميت"

تؤكد نظرية الحصان الميت أن الإصرار على مشاريع غير مجدية يزيد الخسائر بدلًا من تحقيق الأهداف، في حالة مصنع ألبان النعمة، يبدو أن هناك خوفًا من الاعتراف بفشل المشروع، خاصة مع ارتباطه بأهداف سياسية.

 

أصبح مصنع ألبان النعمة مثالًا واضحًا لنظرية الحصان الميت، فقد استمرت الجهات المعنية في ضخ الأموال دون معالجة جوهر المشكلة، مما أدى إلى تفاقم الخسائر، واليوم، نحن بحاجة إلى شجاعة سياسية وجرأة في اتخاذ القرار لإنهاء هذا الهدر المستمر.

 

إن نجاح المشاريع التنموية لا يُقاس بعدد المشاريع المُدشنة أو بحجم الاستثمارات، بل بتأثيرها الإيجابي والمستدام على الاقتصاد والمجتمع. تفشل المشاريع في كل بقاع الأرض وهذا أمر شائع، لكن عدم الاعتراف بالأخطاء وتصحيح المسار أمر خطير وغير مقبول، إن إعادة توجيه الموارد نحو مشاريع أكثر جدوى، هو الخيار الأفضل لصنّاع القرار، بدلًا من إهدار الوقت والموارد على محاولات عبثية لإحياء "حصان ميت".