على مدار الساعة

مشروع قانون الأحزاب السياسية: نص قمعي وخطير

25 يناير, 2025 - 12:05
عمر ولد ددّه ولد حمادي – لو كورمو عبدول

يمثل مشروع قانون الأحزاب السياسية، الذي قدمته الحكومة إلى الجمعية الوطنية الأسبوع الماضي، تراجعًا خطيرًا في الحريات العامة، كما يهدد الطابع التعددي للديمقراطية الموريتانية الناشئة. إنه ، في الواقع، خطوة إضافية في اتجاه تحجيم الحياة العامة والتحكم فيها بشكل سلطوي. ومن المرجح أن يؤدي الإقصاء الناتج عن هذا القانون إلى تشجيع التعبير عن الخلافات السياسية وإدارتها بطرق كان يُعتقد أنها أصبحت تنتمي إلى ماضٍ سحيق.

 

ينتهك هذا المشروع الدستورَ، لا سيما مواده 10 و11 و99، كما ينتهك الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها البلاد. كما أن يعكس، على الأقل، ديناميكيتين متكاملتين: فهو من ناحية، يجعل إنشاء الأحزاب السياسية عملية شاقة ومعقدة؛ ومن ناحية أخرى، يجعل حلها أمرًا سهلًا بشكل مثير للدهشة.

 

ولوضع مفردات النقاش القانوني على أسس واضحة، من المهم التذكير هنا أنه بموجب قوانيننا الوطنية، وكذا بموجب الالتزامات الدولية لموريتانيا، فإن الحق في المشاركة في الحياة العامة، بما في ذلك إنشاء الأحزاب السياسية والانضمام إليها، لا يمكن أن يُقيد،  قانوناً، إلا ضمن شروط صارمة، إذ:

يجب أن تكون القيود على هذه الحقوق واضحة بدقة؛

أن يكون منصوصًا عليها في القانون؛

أن تكون ضرورية في مجتمع ديمقراطي؛

أن تكون متناسبة مع الهدف الذي تسعى لتحقيقه؛

أن تكون متوافقة مع الأهداف الدستورية؛

وأخيرًا، أن تكون مصحوبة بسبل فعالة للطعن القضائي.

 

وبداهةً، فإن مشروع القانون المعروض حالياً لا يحترم أياً من هذه الشروط ، وهو ما يؤكده السياق العام الذي صيغ فيه هذا النص.

 

I- حول السياق العام للنص

 

من الضروري هنا التذكير ببعض الملاحظات التمهيدية  التي تفرض نفسها وتكشف الطبيعة السلطوية لهذا النص. فهو جزء من ديناميكية أكثر عمقًا وبُعدًا تهدف إلى التحكم في الحياة العامة، من خلال غربلتها، وفي النهاية إغلاقها، مما يجعل أي تناوب ديمقراطي حقيقي أمرًا مستحيلًا.

 

1-انتهاك القوانين القائمة
 

من الضروري هنا التذكير بأن الحكومة تنتهك، منذ سنوات عديدة، بشكل عمدي وتعسفي،  التشريعات المعمول بها بشأن الأحزاب السياسية وذلك من خلال رفضها لتطبيق القانون النافذ. حيث بقيت عشرات طلبات ترخيص للأحزاب السياسية عالقة أمام وزارة الداخلية لسنوات عديدة. ولم تجد الحكومة غضاضةً في الاعتراف بذلك مبررة إياه بالحاجة المزعومة لـ«عقلنة المشهد السياسي» عن طريق تقليص عدد الأحزاب «المعترف بها» ، وذلك في ظل نظام انتخابي فاسد.

 

2-عزيز "الأوليغارشية" المتنامية في الحياة العامة

 

رغم أن السلطة تمتلك بالفعل سيطرة كاملة على "ترخيص" الأحزاب السياسية التي تعلقها أو تحلها تعسفيًا، يجب التذكير بأن قانون الانتخابات يربط المشاركة في الانتخابات بالانتماء إلى حزب سياسي معترف به بشكل يجعل أهلية الترشح مرتبطةً بالانتماء إلى حزب سياسي، وهو ما يشكل انتهاكًا للدستور.

 

حيث تضمن المادة 10 من الدستور حرية الانتماء إلى الأحزاب السياسية، وهو ما يشمل حرية عدم الانتماء إلى أي حزب. كما تنص المادة 11 على أن "الأحزاب والمجموعات السياسية تساهم في تكوين الإرادة السياسية والتعبير عنها". بمعنى أنها "تساهم" في تكوين هذه الإرادة، دون أن "تحتكرها". وترتبط هذه المادة مباشرة بالطابع التعددي للديمقراطية الموريتانية، الذي نصت عليه المادة 99 من الدستور، وهي مادة غير قابلة للتعديل.

 

بالإضافة إلى ذلك، فإن إلزامية الانتماء إلى حزب سياسي من أجل الترشح للانتخابات تتعارض مع قانون وطني أعلى من قانون الأحزاب السياسية: وهو القانون الذي يدمج في نظامنا الداخلي العهدَ الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي يضمن حرية تكوين الجمعيات، بما في ذلك في إطار الأحزاب السياسية. فقد أوضحت لجنة حقوق الإنسان، المسؤولة عن تفسير هذا العهد، أن "الحق في الترشح للانتخابات لا ينبغي أن يكون مقيدًا بشكل غير معقول بإلزامية الانتماء إلى الأحزاب".

 

ويعني ذلك أنه حتى لو قمنا بتدوين مثل هذا الاحتكار للترشح صلبَ الدستور، فإن موريتانيا ستظل في انتهاك لالتزاماتها الدولية: ذلك أنه، ،وفقًا لاتفاقية فيينا بشأن قانون المعاهدات، لا يمكن للدولة أن تستند إلى أحكام قانونها الداخلي لتبرير عدم تنفيذ التزاماتها الدولية.

 

أخيرًا، أدى احتكار الأحزاب السياسية لحق الترشح إلى ظهور ما يمكن وصفه بـ"تسليع" الأحزاب نفسها، و"أوليغارشية" حياتنا السياسية، وخصوصًا مجالسنا المنتخبة. يكفي لرصد ذلك مراقبة ظاهرة "بورصة الأحزاب" التي تزدهر قبل كل موسم انتخابي، حيث تُبرم صفقات "استئجار" الأحزاب بمبالغ تصل إلى عشرات أو حتى مئات الملايين. والنتيجة واضحة: مجالس تتألف بشكل رئيسي من رجال أعمال، وأثرياء جدد، وطامحين متعجلين لاسترداد استثماراتهم الأولية.

 

3-طريقة صياغة القانون المثيرة للجدل
 

أما الطريقة التي تم بها إعداد مشروع هذا القانون فهي، على أقل تقدير، طريقة ارتجالية، حيث وعد رئيس الجمهورية في برنامجه الانتخابي بأن هذا القانون، مع نصوص أخرى، سيكون موضوع حوار وطني شامل. وأكد "الميثاق الجمهوري"، الذي وقعه وزير الداخلية نيابة عن رئيس الجمهورية مع أحزاب الأغلبية والمعارضة، على أهمية هذا الحوار الشامل، الذي بدأت أعماله فعليًا بافتتاح نقاشات واسعة حول موضوع وضع الأحزاب السياسية في عام 2023. ومع ذلك، تجاوزت الحكومة نتائج هذه المشاورات، وصاغت النص في بداية هذا العام بسرية تامة. ثم أبلغت بعض الأحزاب التي تم اختيارها بعناية في اجتماع للإخطار لا أكثر، وبشكل لا يمكن وصفه بأنه حوار أو حتى مشاورة. ثم تمّ اعتماد النص في مجلس الوزراء مباشرةً ليُحال إلى الجمعية الوطنية.

 

وتكشف صياغة مشروع القانون عن جهل واضح بقانون الحريات العامة، وبتراتبية القوانين في نظامنا الوطني، وبالتزاماتنا الدولية. في الحقيقة، لم تشهد موريتانيا ، منذ فترة طويلة، مشروع قانون بهذا القدر من السلطوية والخطورة.

1-إنشاء الأحزاب السياسية وفق مشروع القانون:

أ. ترسيم نظام الترخيص المسبق الخاضع بالكامل لسيطرة وزارة الداخلية

 

يُحدث مشروع القانون تغييرات جذرية على النظام القانوني المتعلق بالأحزاب السياسية. فقد وضعَ النص الأصلي لعام 1991 نظامًا يُعرف بـ "النظام التصريحي"، حيث يتم إنشاء الحزب السياسي بموجب تصريح يُقدّم إلى الوزير المكلف بالداخلية، والذي يصدر بدوره وصلاً بالمقابل (المادة 7 من القانون الحالي). ووفق هذا النظام، لا يملك الوزير أي سلطة تقديرية، بل يقتصر دوره على إصدار الوصل كـ "كموثق للجمهورية". ويمنح هذا الوصل الشخصية القانونية  للحزب السياسي (المادة 15 من نفس القانون). ومع مرور الوقت، تحول هذا النظام تدريجيًا، وفقط من خلال الممارسة، إلى نظام ترخيص مسبق. ويُكرس مشروع القانون الحالي هذا التحول التدريجي عبر تقنينه لمطلب الترخيص المسبق بشكل صريح: "لكي يُعتبر إنشاء حزب سياسي (...) قانونيًا، يجب عليه الحصول على ترخيص من الوزير المكلف بالداخلية" (المادة 7 من مشروع القانون).

 

ويتم ترسيم نظام الترخيص هذا على الرغم من الانتقادات المتكررة من الهيئات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، التي وجهت اللوم إلى بلدنا عدة مرات بهذا الخصوص. حيث أوصت لجنة حقوق الإنسان حكومتنا مرارًا باستبدال نظام الترخيص هذا -الذي لم يكن موجودًا آنذاك في النص وإنما في الممارسة العملية- بنظام تصريحي حقيقي، تماشيًا مع التزاماتنا الدولية. وها هي الحكومة تقوم بالعكس تمامًا.

علاوة على ذلك، يلغي النص أي التزام على الوزير بالرد على طلبات الترخيص ضمن مهلة زمنية محددة. حيث تنص المادة 24 المقترحة على أن "المهل الزمنية المذكورة في المادة 12 لا تُؤخذ في الاعتبار إذا كانت إجراءات إنشاء الحزب أو التعديلات التي يُدخلها الحزب تتطلب مزيدًا من التحري والبحث". وستتيح هذه الصيغة الفضفاضة للوزارة التذرع بـ "الحاجة للمزيد من التحري والبحث" لإبقاء المواطنين في حالة من عدم اليقين المطلق.

 

ب. انحراف تشريعي: وزير الداخلية يستحوذ على السلطة التشريعية

 

تُحدد المادة 8 من مشروع القانون قائمة بالوثائق المطلوبة لتكوين ملف الترخيص. ومع ذلك، فإن هذه القائمة، المتقادمة بعض الشيء من ناحية الوثائق المطلوبة، هي فقط إرشادية وليست حصرية: حيث يشير النص إلى أنه يمكن "تكميلها أو تعديلها، إذا لزم الأمر، بقرار من الوزير المكلف بالداخلية". وهو ما يمنح الوزير سلطة تشريعية ضمنية، تُمكّنه من تعديل القانون بقرار إداري بسيط، الأمر الذي يمثل انحرافًا خطيرًا وغير مبرر.

 

ج. شروط غير معقولة وعشوائية

 

تفرض المادة 8 أيضًا على الأحزاب التي تسعى للترخيص أن تكون لديها قاعدة شعبية قوية تضم 5000 عضو موزعين على نصف مناطق البلاد، مع وجود مقار وطنية وإقليمية ومحلية. ولإضافة مزيد من الغرابة إلى الإجراء، أشار وزير الداخلية -على ما يبدو- إلى أن هؤلاء الأعضاء المحتملين يجب أن يتصلوا فرديًا بالوزارة هاتفيًا للتعبير عن "رغبتهم" في الانضمام إلى حزب سياسي معين. ولا يحتاج هذا الإجراء إلى تعليق.

 

د. متطلبات عبثية وتمييزية

 

يشترط مشروع القانون، في المادة 11، أن يتمتع نصف الأعضاء المؤسسين للحزب على الأقل، "بالمؤهلات والكفاءات اللازمة من أجل إعداد وتنفيذ برنامج سياسي لحزبهم". كيف يمكن تقييم هذه "الكفاءة"؟ هل سنُخضع نصف الأعضاء المؤسسين لامتحانات كتابية ومقابلات شفوية داخل مقار وزارة الداخلية مثلاً؟ في تصريح للصحافة، يبدو أن وزير الداخلية أشار إلى أنه يجب أن يكون هذا "النصف المفيد" من الأعضاء المؤسسين من حملة الشهادات الجامعية. ويُعد هذا شرطًا غير منطقي في مجتمع تصل فيه نسبة الأمية إلى 50%. علاوةً على ذلك، فإن قيمة الشهادات مشكوك فيها في بلد معروف بأن بعض كبار المسؤولين وحتى أساتذة الجامعات يحملون شهادات مزورة. كما أن هذا الشرط يُعد تمييزيًا اجتماعيًا. فالواقع هو أن قادة جمعيات الجزارين في كيفه، ومربي الماشية في النعمة، والمزارعين في كيهيدي -وهم غالبًا أميون- قد يكونون أكثر شعبية وأكثر قدرة على التعبير عن احتياجات وتطلعات المواطنين مقارنةً بالعديد من "حملة الشهادات الجامعية" لدينا.

 

2. حل الأحزاب السياسية

أ. إلزامية المشاركة في جميع الانتخابات تحت طائلة الحل

 

بموجب مشروع القانون الجديد، سيُصبح من واجب الأحزاب السياسية المشاركة في جميع الاستحقاقات الانتخابية، حتى إذا كانت تفتقر إلى ضمانات الشفافية والنزاهة، وذلك تحت طائلة الحل. حيث تنص المادة 20 من المشروع على أنه سيتم حل الحزب السياسي الذي لا يحصل على نسبة 2% من مجموع الأصوات المعبر عنها على المستوى الوطني، وذلك قبل أو بعد مقاطعة انتخابات مشابهة . وهو إجراء غير عادل ولا منصف، لأن طبيعة الأحزاب السياسية تقوم على بناء شعبيتها مع مرور الوقت. فلو تم تطبيق هذا الإجراء في فرنسا مثلاً-الدولة التي نستشهد بها غالبًا في نقاشاتنا الوطنية  وإن بشكل انتهازي وبدون فهم كافٍ لنظامها- لكان قد أدى، منذ ثمانينيات القرن المنصرم، إلى حل حزب اليميني المتطرف وهو الحزب الذي يُعتبر اليوم أكبر حزب في ذلك البلد.

 

في جوهره، يبدو مشروع القانون وكأنه يربط الأحزاب السياسية بالانتخابات ، بل لا يعترف لها بوظيفة أخرى غير المشاركة في الانتخابات. وهو أمر لا يوجد له أي أساس في نظامنا القانوني. صحيح أن المادة  4 من الدستور الفرنسي -مرة أخرى، فرنسا!- تبرز الدور الانتخابي للأحزاب السياسية بنصها  على "إسهام الأحزاب في الإقتراع". ومع ذلك، تضم فرنسا أكثر من 500 حزب سياسي، لم تشارك غالبيتها الساحقة مطلقًا في أي انتخابات. وفي المقابل، لا تشير المادة 11 من الدستور الموريتاني إلى الانتخابات أو الاقتراع أو التصويت. وإنما تكتفي بالنص على أن "تسهم الأحزاب والمجموعات السياسية في تشكيل التعبير عن الإرادة السياسية".

 

علاوة على ذلك، فإن مشروع القانون الحالي يقدم، في مادته الثانية، تعريفاً للأحزاب السياسية ولدورها. ومرة أخرى، لا يربط هذا النص الأحزاب السياسية بالانتخابات. بل يبدو أنه يعترف لها بدور أوسع مما ورد في المادة 11 من الدستور حيث يعتبر أن: "الأحزاب السياسية هي جمعيات (...) تهدف إلى جمع المواطنين الموريتانيين الذين يرغبون في الانضمام إليها حول برنامج سياسي محدد (...) من خلال المساهمة في تشكيل التعبير عن الإرادة السياسية في جميع مجالات الحياة العامة". لا ذكر هنا للانتخابات، ومع ذلك، فإن الأحزاب ستكون معرضة للحل إذا لم تشارك فيها أو تحقق حدًا معينًا من النتائج في الانتخابات.

 

ب. الإغلاق - التعليق - الحل: ثلاثية تلخص نهج وزارة الداخلية

 

يمنح مشروع القانون وزير الداخلية سلطة "إغلاق" مقار الأحزاب و"تعليق أنشطتها" لمدة تصل إلى 90 يومًا، وذلك بحجة مخالفة "القوانين والنظم المعمول بها أو الإخلال بالنظام العام". وهي مصطلحات واسعة للغاية، وإذا امتُحنت على ضوء معايير تقييد الحقوق المدنية والسياسية، المذكورة آنفاً، فإنها ستبدو غير متناسبة، تعسفية، و"غير معقولة" بالمعنى القانوني.

 

ذلك أنه من الضروري، في هذه الحالات، تحقيق توازن ملائم بين الأهمية القصوى لحق تأسيس الأحزاب السياسية من جهة، ومن جهة أخرى منع انتهاك قانون أو لائحة محددة. هل ستُعتبر مثلاً مخالفة قانون المرور، أو خرق تعميم حاكم مقاطعة يفرض إجراءً غير قانوني سببًا كافيًا لتعليق حزب؟.

 

الأمر نفسه ينطبق على العبارة الأولى من المادة 25 الجديدة، التي تسمح بحل حزب لأسباب فضفاضة مثل "عدم احترام الحق في الاختلاف"، أو "القيام بحملة جهوية"، أو اعتبارات أخرى لا تتناسب مطلقاً مع خطورة إغلاق الأحزاب مثل "عدم تقديم تقرير سنوي عن نشاطات الحزب إلى وزارة الداخلية". وبالمناسبة، لماذا يجب على حزب سياسي تقديم تقرير سنوي عن أنشطته إلى وزارة الداخلية؟ وأخيرًا، فإن قرار الحل، بعد فترة تعليق تستمر ستة أشهر، يتم بمرسوم صادر عن مجلس الوزراء بناءً على مجرد تقرير من وزير الداخلية.

 

هنا أيضاً، يتجاهل النص ضمانات دولة القانون. فالأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى حل الأحزاب وفقًا لهذا النص غالبًا ما تكون واهية، كما أن هذه قرارات الحل نفسها لا تخضع لأي من الضمانات القانونية الضرورية في دولة قانون. ففي نظامنا القانوني، لا يمكن حل الأحزاب السياسية إلا بقرار من السلطة القضائية وفي إطار محاكمة عادلة. صحيح أن فرنسا - دائمًا!- تجيز حل الجمعيات، وبالتالي الأحزاب السياسية، بمرسوم صادر عن مجلس الوزراء، وذلك استنادًا إلى قانون صدر عام 1936 -استثناءً عن القانون الأصلي لعام 1901- ولكنه نص لا علاقة لسياقه بتاريخنا السياسي ولا بواقعنا الحالي ولا بنظامنا القانوني. ومع ذلك، فإن هذا المرسوم الذي يوقعه رئيس الجمهورية في فرنسا يخضع لرقابة مجلس الدولة. وفي الواقع، يُطبق هذا الإجراء فقط على التشكيلات التي تتبنى الإرهاب أو النشاط العسكري كآلية عمل.

 

خاتمة

بالمحصلة، فإن مشروع القانون المتعلق بالأحزاب السياسية الذي يُعرض حاليًا على الجمعية الوطنية يتسم بالتناقض، ويعكس توجهًا سلطويًا يهدف إلى إغلاق المجال السياسي وتكريس وزارة الداخلية كوصي على الحياة السياسية والمجتمع، وكبديل للسلطة التشريعية.

 

ويمثل هذا المشروع انحرافًا خطيرًا، وتراجعًا مقلقًا، عبر القضاء على كافة الضمانات، وتقويض مبادئ دولة القانون، وتوسيع الذرائع والإجراءات التي تسمح بحل التشكيلات السياسية. كما أنه يعتبر، سياسياً،  تراجعاً عن الوعد الصريح، المكتوب والذي تم تكراره عدة مرات في خطابات رئيس الدولة خلال حملته الانتخابية، بإخضاع هذا الإصلاح لحوار وطني شامل. والأخطر من ذلك أن هذا النص يبدو كما لو كان دعوة للفاعلين السياسيين للتفكير في أشكال أخرى من إدارة الخلافات السياسية، أشكال كان الجميع يأمل أن تكون صفحتها طويت إلى الأبد، كالعمل السري أو، أسوأ من ذلك، الانقلابات العسكرية.