من نافلة القول إن التجربة الموريتانية في مجال الوظيفة العمومية مجرد امتداد للتجربة الفرنسية التي نشأت في نظام وظيفي مغلق لا يتمتع بقدر كبير من المرونة في ظل آلية معيارية مبنية على منطق القرارات والاستمرارية لا منطق المردودية، الأمر الذي حتم أن تطور المسار المهني للموارد البشرية في هذا النظام يرتبط بتطور الإطار القانوني الذي ينظمها.
وبالتالي كان إصلاح النظام الوظيفي الموريتاني موضوع العديد من المحطات التنظيمية والقانونية والخطط الترقيعية، منذ باشرت حكومة المختار ولد داداه رحمه الله تأميم الإدارة والبحث عن طواقم إدارية وطنية تحل تدريجيا محل الإداريين الأجانب لخلق سيادة وطنية على مجال الإدارة.
فكانت البداية مع إنشاء مركز للتكوين الإداري 1964، سيكون النواة الأولى للمدرسة الوطنية للإدارة التي أنشئت بموجب القانون رقم: 124/66 الصادر بتاريخ: 1966 وهو ما ساعد على بلورة أول قانون عام للوظيفة العمومية الموريتانية سنة 1967، واستمر العمل به إلى أن ألغي بموجب القانون رقم: 09/93 الصادر في 18 يناير 1993 المتضمن النظام الأساسي للموظفين والوكلاء العقدويين للدولة الذي مازال نافذا حتى الآن مع بعض من التعديلات الجزئية تحت ضغوط اقتصادية واجتماعية أدت إلى نوع من التشتت وعدم التوازن داخل الهرم الوظيفي، مع ظهور أنظمة أساسية خاصة ببعض القطاعات أو فئات الوظيفة العمومية "كالنظام الأساسي لموظفي الصحة، التعليم، المالية.." وظلت تقوية منظومة الوظيفة العمومية ينظر إليها بالكلفة المادية المعلقة على الخطابات الرئاسية في الأعياد الوطنية والمناسبات الدينية.
الأمر الذي طرح العديد من الإشكاليات على مستوى ارتفاع المنظومة الأجرية مقابل الناتج الداخلي، وهذه المنظومة تحكمها معادلة عكسية إذ تغلب فيها التعويضات على الراتب الأساسي مما يُؤثر على الترقية والمسار المهني للموظفين ويُنتج أضرارا مادية ونفسية جسيمة بعد التقاعد في ظل معاشات زهيدة، مما يُغيب ويُؤجل سؤال الأمن الوظيفي، إضافة إلى العديد من الصعوبات المرتبطة بغياب العدالة المجالية من خلال التوزيع غير المتجانس للموظفين بين الجهات والقطاعات بسبب انتشار ظاهرة الموظفين الأشباح واكلاسيكية آليات التحفيز التي تساعد على حركية هذه الموارد وإعادة انتشارها ويمكننا أن نعطي إحصائية تقريبية، ففي المجال القروي الذي يشكل 99% من المساحة الوطنية يوجد طبيب ونصف مقابل 600 نسمة تقريبا، ومعلم واحد هو المدير والمدرس مقابل نفس النسبة في أحسن الأحوال، إلى غير ذلك من الصعوبات التي يضيق عنها المقام.
لكن المُفارقة الكبرى هي أن هرم الوظيفة العمومية في موريتانيا هرم ينقلب تدريجيا، فعدد كبير من الموظفين يقترب من التقاعد مقابل نسبة الولوج، بفعل عجز آليات التدبير التوقعي للوظائف مما أدى إلى خصاص كبير في قطاعات اجتماعية حساسة ومشكل بنيوي حقيقي يُهدد استمرارية الوظائف الأساسية للدولة.
لكنه أضيف أيضا الى المُعضلات المُؤجلة، تبني إجراءات استعجالية، وحلول وقتية رفعت سن التقاعد إلى 63 سنة ومددت هذا العمر إلى 68 بالنسبة لبعض الفئات الوظيفية، ولجأت إلى التعاقد المباشر بعقود مؤقتة ودائمة بضمانات أجرية ضعيفة، مما نجم عنه استفحال ظاهرة "مستخدمي قطاعات التعليم والصحة" مُقابل تقليص مُدة تكوين وتأهيل هذه الموارد البشرية بهدف إشباع عاجل لحاجات هذه المرافق، الأمر الذي ستكون له انعكاسات وخيمة على جودة ومردودية الخدمات المقدمة، وسيضرب الأمن الصحي الوطني والمُخطط التربوي في صميمه "فلا مدرسة جمهورية دون موارد بشرية مُؤهلة".
ويبدو أن هذه السياسات ستمس منطق الشفافية والاستحقاق الوظيفي بعد حصر اكتتاب الموظفين لصالح إدارات الدولة على مستوى الفئتين "أ" و"ب" وإخضاع المستويات الأدنى من الفئتين المذكورتين لعُقود دائمة أو مُؤقتة حسب ما ورد في المادة الأولى من مشروع القانون الصادر عن مجلس الوزراء يوم 04 ديسمبر 2024 الذي يُعدل ويحل محل بعض أحكام النظام الأساسي للموظفين والوكلاء العقدويين للدولة، وإذا لم تُحدد معايير واضحة لهذا الاكتتاب، تقوم على منطق الكفاءة والمردودية لا الزبونية والمحسوبية سنكون مجددا أمام تضخم كمي وضعف كيفي.
إن هذا الانقلاب الهرمي للنظام الوظيفي يُشكل خللا بنيويا عميقا، ومُشكلا وُجوديا للدولة الموريتانية، ويتطلب وقفة وطنية متحسرة وصادقة، تشفع بقراءة موضوعية تشاركية تُفرز خطة شُمولية مُتأنية للإصلاح الإداري، مبنية على مُعطيات علمية وتدبيرية أساسها المردودية والكفاءة وتستحضر البُعد النفسي والاجتماعي ومُتطلبات الأمن الوظيفي المفقودة، على غرار كل الدول في العالم العادي والطبيعي التي وضعت أنظمة وظيفية مُتطورة بعيدا عن الآلة الحكومية والتجاذبات السياسية والحلول الترقيعية.