لم أكن لأتصور أنني، وبعد مرور ثلاثة وثلاثين عامًا، سأجد نفسي أكتب هذه الشهادة عن ذلك اليوم الخطير في تاريخ مصفاة نواذيبو. كان من المفترض أن يكتب عنها شخص آخر غيري، لأن مصيري، لولا تدخل القدر، كان سيكون أقل ما يمكن وصفه بالمأساوي، حيث كنت على وشك أن أكون من المفقودين. ألسنة النار، قوة الانفجارات، أو الشظايا الملتهبة كانت قادرة على القضاء عليّ تمامًا، لتحولني إلى فحم أو رماد. وليس في ذلك أدنى مبالغة.
ها أنا اليوم بمشيئة الله بنيت أسرة ورزقني الله ذرية بارة وزوجة صالحة فريدة في التقى والتفاني في تربية خدمة أسرتها والدعوة إلى الله. اللهم فلك الحمد والمنة.
كنت قد شهدتُ عدة حرائق في مصفاة نواذيبو، تمكنت فرق الإطفاء من السيطرة عليها. كما شهدت أيضا حريق في وحدة الغاز في الجزائر، أثناء فترة تدريبي العملي. إلا أن هذا الحادث كان مختلفًا تمامًا.
كانت المصفاة تعمل بكامل طاقتها، بما في ذلك أكثر وحداتها خطورة، وهي وحدة البنزين التي تستخدم الهيدروجين لتحسين جودته. لذلك كان البنزين يمر عبر مفاعلات وعدة أفران لرفع درجة حرارته إلى 500 درجة مئوية.
وكان يعمل الهيدروجين تحت ضغط يبلغ 24 بار، ومعروف بأنه من أسهل الغازات اشتعالًا وأكثرها خطورة، خاصةً تحت هذا الضغط العالي. وفجأة، وقع الانفجار داخل أحد هذه الأفران.
أعرف جيدا أن مصافي البترول تُعَدُّ بيئات عمل معقدة تنطوي على مخاطر متعددة تؤثر على سلامة العاملين والعمليات والبيئة المحيطة. تشمل هذه المخاطر احتمالية حدوث حرائق وانفجارات نتيجة التعامل مع مواد شديدة الاشتعال، والتعرض لمواد كيميائية سامة، والمخاطر الميكانيكية المرتبطة بالضغط العالي والمعدات الثقيلة، بالإضافة إلى التأثيرات البيئية مثل التلوث والانبعاثات الغازية.
لمواجهة هذه المخاطر، كان يجب عليَّ، بصفتي المسؤول الأول عن إدارة العمليات، أن أُشرف على التدريب المستمر للعاملين على جميع أشكال هذه المخاطر، كإجراءات وقائية لتعزيز سلامة العمليات وحماية العاملين والبيئة المحيطة.
في هذا السياق، أجريتُ بحثًا معمقًا حول أصناف هذه المخاطر وسبل معالجتها، وقمتُ بعرض نتائجه في غرفة التحكم لزيادة وعي المشغلين بها. من بين هذه المخاطر كيفية التعامل مع حرائق أفران وحدة الهيدروجين، وكان الجميع على دراية تامة بهذه الحالة وطرق معالجتها.
عندما سمعتُ دويَّ الانفجار وأنا واقف أمام غرفة التحكم المطلة على المصفاة، بدا لي وكأن المصفاة بأكملها قد اشتعلت، إذ انتشرت ألسنة اللهب فوقها. هرعتُ مسرعًا نحو موقع الحريق، وكلما تقدمتُ، كان يبدو لي أن الحريق يبتعد، حتى بلغتُ وحدة البنزين، فتيقنتُ أن الحادث يتعلق بحريق داخل أحد أفرانها. لا شك أن ألسنة اللهب التي غطت المصفاة كانت نتيجة لقوة الانفجار.
كانت الإجراءات الواجب اتخاذها على الفور هي:
- التوقف الفوري للضاغط المسؤول عن زيادة ضغط الهيدروجين داخل الفرن،
- إدخال بخار الخنق في الفرن لمنع انفجاره،
- تفريغ ضغط الهيدروجين إلى الغلاف الجوي لتسهيل عملية الإخماد،
- حقن النيتروجين في أنبوب الهيدروجين لإطفاء الحريق، حيث يُعتبر النيتروجين العامل الوحيد القادر على إخماد حرائقه.
تتطلب هذه الإجراءات تنسيقًا دقيقًا وسريعًا بين فرق العمل المختلفة داخل المصفاة، بالإضافة إلى فهم عميق لخصائص الهيدروجين وسلوكه تحت ظروف الضغط والحرارة المرتفعة. يُعد النيتروجين، بفضل خصائصه، الوسيلة الأكثر فعالية لإطفاء حرائق الهيدروجين، نظرًا لقدرته على عزل الأكسجين ومنع استمرار عملية الاحتراق.
كانت هذه البروتوكولات جزءًا من خطة الاستجابة للطوارئ في المصفاة التي تدربنا عليها باستمرار، وكانت الفرقة جاهزة للتعامل معها بكفاءة وفعالية.
في اللحظات الحرجة التي أعقبت الانفجار مباشرة، تمكنا من تنفيذ جميع الإجراءات الوقائية المطلوبة بكفاءة ودقة وشجاعة، بالرغم من التهديد الواضح لتوسع رقعة النيران. وقد لعب فريق المختبر دورًا محوريًا في دعمنا خلال هذه العمليات، حيث أظهر جاهزية استثنائية وقدرة فائقة على التعاون معنا في هذا الظرف الطارئ. إلى جانب ذلك، تمكنا من تنفيذ عملية إيقاف طارئة للوحدات الثلاث الأخرى التي كانت تعمل آنذاك، حفاظًا على سلامة المنشأة ومنعًا لتفاقم الخطر.
بالتزامن مع الجهود المبذولة لاحتواء الحريق على مستوى وحدات الإنتاج التي قمنا بها، قامت فرقة الإطفاء بعمليات فعالة من بينها إخماد فوري للنيران التي اندلعت في الأنفاق الأرضية الممتدة تحت الأفران، والتي كانت تعج بالمواد البترولية القابلة للاشتعال. هذه القنوات، بحكم امتدادها الواسع تحت المصفاة ووحدات التخزين، شكلت تهديدًا جديًا كان من الممكن أن يؤدي إلى انتشار الحريق بشكل كارثي ليشمل جميع مرافق المصفاة، بما في ذلك المستودعات والميناء. تصدت الفرقة لهذا التهديد بحرفية ودقة عالية، مما حال دون وقوع كارثة أكبر.
بعد مضي ساعات قليلة، أخذت ألسنة النيران المتصاعدة تتضاءل تدريجيًا، فيما انطلقت صيحات الفرح والزغاريد من قبل سكرتيرة المدير العام، التي أظهرت شجاعة نادرة وبطولة استثنائية بحضورها هذا المشهد المرعب، حيث إن الخطورة الكامنة في تفاصيله كانت تحمل بين طياتها احتمالية نسف المصفاة برمتها، بكل ما ومن فيها.
هذه الفرق، التي تضم فرقة الإنتاج والمختبر إلى جانب عناصر الإطفاء، قد استفادت من برامج تكوين عالية المستوى في كل من فرنسا والمغرب، كما اكتسب بعضها خبرات عملية متميزة من خلال عملها في دولة قطر الشقيقة، حتى جاء اليوم الذي استدعتهم فيه بلادنا لتولي مهام تشغيل المصفاة، في إطار جهد استراتيجي لتوظيف الخبرات الوطنية في هذا المجال الحيوي.
على الرغم من الملحمة البطولية التي سطرها عمال المصفاة في تصديهم للحريق الذي نشب في أروقتها، والتي جسدت أسمى معاني الشجاعة والإخلاص في مواجهة خطر داهم كاد أن يودي بحياتهم ويقضي على مستقبلهم، إلا أن هذه الجهود الجبارة لم تلقَ أدنى تقدير يُعبّر عن عظيم ما بذلوه. لم يحظَ هؤلاء الأبطال حتى بكلمة شكر بسيطة، ولا بتكريم يليق بحجم تضحياتهم، وكأن ما قدموه لم يكن سوى واجب عابر لا يستحق التوقف عنده.
وفي مفارقة مؤلمة ومثيرة للحيرة، يستمر توزيع الامتيازات والأوسمة الشرفية على من كان مساهمًا بشكل مباشر في تشويه سمعة المصفاة، وشريكًا فيما آلت إليه من تدهور وانهيار. مشهد عبثي يختزل مأساة أكبر تتمثل في مكافأة من تسبب في الخراب، على حساب من خاطروا بأرواحهم في سبيل الحفاظ على هذا الصرح، في انعكاس صارخ لغياب الإنصاف وتشويه قيم العدالة.
نواكشوط 26.01.2025