على مدار الساعة

تحليل نقدي واستراتيجي للميزانية الدبلوماسية الموريتانية

30 يناير, 2025 - 16:34
د. مصطفى أحمد علي - أستاذ جامعي

يكشف تحليل الميزانية الدبلوماسية الموريتانية، البالغة 1.809 مليار أوقية، عن قضايا حاسمة بالنسبة لدولة نامية يجب عليها التوفيق بين نفوذها الدولي والقيود الميزانية. بإيجاز، فإن الأمر يتعلق بميزانية دبلوماسية لدولة تواجه تحديات اجتماعية واقتصادية كبرى، في حين تسعى إلى الحفاظ على موقعها الجيوستراتيجي الفريد بين المغرب العربي وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى... وبقية العالم.

 

اختلال التوازن الأساسي

إن الخلل الأساسي الذي لوحظ في البنية الميزانية (حيث يتم تخصيص 98% منها للعمليات مقابل 2% فقط للاستثمار) يوضح بشكل مثالي ما أطلق عليه (مارسيل ميرل) في عام 1984 "الدبلوماسية المرموقة" أي دبلوماسية التباهي. وقد ثبت أن هذا النهج، الموروث من مفهوم تقليدي للعلاقات الدولية، غير مناسب بشكل خاص لاحتياجات الدولة النامية. إن معظم نفقات التمثيل، وخاصة من خلال الإيجارات الباهظة في العواصم الغربية وتكاليف الاستقبال الكبيرة، تشهد على رؤية عفا عليها الزمن للعمل الدبلوماسي.

 

يكشف التحليل التفصيلي للمكونات الميزانية لوزارة الخارجية الموريتانية عن اختلالات هيكلية كبيرة في تخصيص الموارد. وتتيح دراستنا التفصيلية هذه لمختلف بنود الإنفاق، إمكانية تحديد هذه الفجوات بدقة.

 

تكاليف التمثيل وتكاليف الحفلات

تشكل نفقات التمثيل والاحتفال بندًا كبيرًا في الميزانية، حيث يبلغ مجموعها 21.77 مليون أوقية جديدة. وينقسم هذا المبلغ إلى فئتين رئيسيتين: تكاليف الاستقبال والاحتفال البالغة 6.7 مليون أوقية جديدة، وتكاليف الفندق البالغة 15.06 مليون أوقية جديدة. وتوضح هذه الأرقام الأهمية الكبيرة الممنوحة لوظائف البروتوكول والتمثيل.

 

وزن الإيجارات

ويبدو أن ثقل الإيجارات في العواصم الغربية له أهمية خاصة، إذ يبلغ إجمالي الإيجارات للبعثات الدبلوماسية الرئيسية 30.33 مليون أوقية جديدة. ويكشف توزيع هذه التكاليف العقارية عن أعباء كبيرة تتحملها الميزانية في هذه العواصم: باريس بـ4.51 مليون أوقية جديدة، وبرلين بـ6.32 مليون أوقية جديدة، وواشنطن بـ9.51 مليون أوقية جديدة، ولندن بـ9.98 مليون أوقية جديدة. وتعكس هذه المبالغ التكلفة العالية للحفاظ على الوجود الدبلوماسي في العواصم الغربية الكبرى.

 

تكاليف الاستقبال

وتوضح تكاليف الاستقبال في السفارات أيضًا هذا الاتجاه نحو الإنفاق على التصرف المرموق. وتنفق البعثة في باريس 1.99 مليون أوقية جديدة على تكاليف الاستقبال والاحتفال، في حين تنفق لندن وبرلين 511721 و459800 أوقية جديدة على التوالي. وتمثل هذه المبالغ، رغم اختلافها حسب العواصم، جزء كبيراً من الميزانيات الإتيادية (التسيير) أي التشغيلية للبعثات الدبلوماسية.

 

الاستثمارات الاستراتيجية

ويبدو التباين الأكثر وضوحا في المبالغ المخصصة للاستثمارات الاستراتيجية، من إجمالي الميزانية البالغة 1.809 مليار أوقية جديدة، حيث يتم تخصيص 98.37% من الميزانية (1.779 مليار أوقية جديدة) للتشغيل، بينما يتم تخصيص 1.63% فقط (29.55 مليون أوقية جديدة) للاستثمار. ويتم تقسيم هذا المبلغ الاستثماري بين الأرشيف (5 ملايين أوقية جديدة) ومعدات البعثات الدبلوماسية (15 مليون أوقية جديدة) ومعدات الوزارة (9.55 مليون أوقية جديدة).

وتسلط تلك النسبة بين التشغيل والاستثمار الضوء على خلل هيكلي للميزانية الدبلوماسية حيث أن التفاوت الكبير بين نفقات التشغيل والاستثمارات الاستراتيجية نهجا تقليديا للدبلوماسية، يفضل التمثيل على حساب التحديث وتنمية القدرات الدبلوماسية.

وتسلط هذه الأرقام الضوء على الحاجة إلى إعادة هيكلة الميزانية بشكل عميق، بهدف إعادة التوازن في تخصيص الموارد لصالح الاستثمارات الاستراتيجية، مع ترشيد الإنفاق التشغيلي والتمثيلي. ويبدو أن إعادة التوجيه هذه ضرورية لتكييف الأداة الدبلوماسية الموريتانية مع التحديات المعاصرة في العلاقات الدولية.

 

جيواستراتيجية تخصيص الميزانية

إن التحليل الجيوستراتيجي لتخصيصات الميزانية، وفقاً لنظرية الدوائر المتحدة المركز التي طورها (باري بوزان) و(أولي ويفر)، يسلط الضوء على ثلاثة مستويات من المشاركة الدبلوماسية التي أصبح توازنها الحالي موضع تساؤل. وتعاني الدائرة الأولى، التي تضم علاقات الجوار الحيوية، من نقص مزمن في التمويل، إذ تبلغ ميزانياتها ما بين 20 و25 مليون أوقية جديدة مغربية للسفارات في المغرب العربي ومنطقة الساحل. ويبدو هذا الوضع متناقضا في ضوء القضايا الحاسمة المتعلقة بالأمن والإرهاب والهجرة التي تميز هذه العلاقات. ويتجلى هذا التوزيع من خلال: غلبة نفقات التمثيل، والإيجارات المرتفعة للغاية في العواصم الغربية، وتكاليف الاستقبال والاحتفال الكبيرة، وتخصيص منخفض للاستثمارات الاستراتيجية.

 

وتكشف الدائرة الثانية، التي تضم الشركاء الاستراتيجيين، عن تشتت باهظ التكلفة للموارد، وهو ما يتجلى بشكل خاص في منطقة الخليج. ويوضح التواجد المتزامن للسفارات في أبو ظبي (35.5 مليون أوقية جديدة)، والدوحة (18 مليون أوقية جديدة)، والكويت (24 مليون أوقية جديدة)، ومسقط (23 مليون أوقية جديدة) التكرار الدبلوماسي الذي يصعب تبريره. ويؤدي هذا التكاثر في التمثيلات في المنطقة نفسها إلى امتصاص الموارد التي يمكن استخدامها بشكل أكثر فعالية في أماكن أخرى.

 

الدائرة الثالثة، الخاصة بالعلاقات المؤسساتية والعواصم الغربية الكبرى، تحشد ميزانيات كبيرة: باريس (64.9 مليون أوقية جديدة)، برلين (41.3 مليون أوقية جديدة)، واشنطن (46.2 مليون أوقية جديدة). وفي حين أن بعض هذه التمثيلات أثبتت أنها لا غنى عنها، فإن البعض الآخر لا يمكن تبريره. على سبيل المثال، قد تتمكن السفارة في أوتاوا (18.8 أوقية جديدة) من دمج وظائفها في بعثة واشنطن دون خسارة كبيرة في النفوذ الدبلوماسي.

 

ترشيد الشبكة الدبلوماسية الموريتانية

ويبدو بالتالي أن ترشيد الشبكة الدبلوماسية الموريتانية يشكل ضرورة استراتيجية. ومن الممكن إغلاق العديد من البعثات أو دمجها، دون أن يكون لذلك تأثير كبير على الفعالية الدبلوماسية للبلاد. ويوضح التمثيل في برازافيل (15.3 مليون أوقية جديدة) والتمثيل في جاكرتا (20.6 مليون أوقية جديدة) حالات لا تعليل لها فضعف العلاقات الثنائية لا يبرر الحفاظ على وجود دبلوماسي دائم.

 

ومن ناحية أخرى، هناك بعض البعثات الضرورية للغاية، وتستحق حتى التعزيز. وتلعب التمثيليات في المناطق المجاورة مباشرة كالجزائر والرباط وباماكو ودكار دوراً حاسماً في الأمن الإقليمي والتكامل الاقتصادي. وعلى نحو مماثل، تظل البعثات إلى الشركاء الاستراتيجيين الرئيسيين، وباريس وواشنطن وبكين، وكذلك التمثيليات المتعددة الأطراف في جنيف واليونسكو ضرورية للدفاع عن المصالح الموريتانية.

 

التوفير المحتمل: 10% من الميزانية الدبلوماسية

ويمكن إعادة استثمار المدخرات المحتملة، والتي نقدرها بما يتراوح بين 150 و200 مليون أوقية جديدة (أي أكثر من 10% من الميزانية الدبلوماسية)، بطريقة أكثر استراتيجية. وينبغي أن يركز هذا الاستثمار على تعزيز البعثات ذات الأولوية، وتحديث الأدوات الدبلوماسية، وتدريب الموظفين الدبلوماسيين. وينبغي إيلاء اهتمام خاص لتطوير الدبلوماسية الاقتصادية، التي تعتبر ضرورية للدول النامية.

 

وكما نعلم أن كل تمويلات الميزانية للبعثات الدبلوماسيات تصرف بالعملة الصعبة فذلك يشكل عبئا ثقيلا جدا على احتياطيات البلاد من العملات الأجنبية، ويحرمها من الاستثمار المنتج في قطاعات الاقتصاد، ويؤدي إلى تفاقم عجز ميزان المدفوعات.

 

التحسين والدعم

إن إعادة الهيكلة التي اقترحناها للشبكة الدبلوماسية الموريتانية لا ينبغي أن ننظر إليها باعتبارها انسحابا، بل باعتبارها ضرورة لتحسين الأداء الدبلوماسي. ومن خلال تركيز مواردها على التمثيلات الاستراتيجية الحقيقية وتطوير حلول مبتكرة (الدبلوماسية الرقمية، والبعثات الإقليمية، والقنصليات الفخرية)، يمكن لبلدنا الحفاظ على دبلوماسية فعالة مع خفض تكاليف التشغيل إلى حد بعيد.

 

إن التحديث التي أعتقد أنها بالغة الأهمية تمثل، نظريا وتطبيقيا، جزء من نهج معاصر للدبلوماسية، وهو نهج أكثر ملاءمة لوسائل الدولة النامية والتحديات الحالية للعلاقات الدولية. وإن نجاح مثل هذا الإصلاح يتطلب التنفيذ التدريجي والمخطط، مما يسمح بالحفاظ على العلاقات الثنائية المهمة مع تحسين استخدام الموارد الدبلوماسية في خدمة التنمية الوطنية.