مقدمة
في قلب المشهد السياسي والاجتماعي الوطني خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، برزت تجربة "هياكل تهذيب الجماهير" كإحدى الأدوات التي استخدمتها السلطة لإعادة تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع، أنشئت هذه الهيئة بموجب المداولة رقم: 5 بتاريخ: 11 نوفمبر 1981 الصادرة عن اللجنة العسكرية للخلاص الوطني، وشكّلت منظومة هرمية امتدت من القمة السياسية إلى أبسط وحدات التنظيم الاجتماعي، مستهدفة تأطير المواطنين وفق رؤية الحكومة آنذاك.
جاءت هذه التجربة في سياق سياسي معقد، حيث سعت السلطات إلى تجاوز الأنماط التقليدية التي اعتمد عليها سابقًا حزب الشعب الموريتاني المنحل، في محاولة لإرساء شكل جديد من التعبئة والتنظيم الجماهيري، بعد التراجع عن مشروع الدستور الذي أعلن عنه 19 ديسمبر 1980، غير أن هذه التجربة لم تمر دون إثارة جدل واسع؛ في حين اعتبرها مؤيدوها وسيلة لإذابة البنى التقليدية وبناء هوية وطنية موحدة، رأى فيها معارضوها أداة مستوحاة من النظم الشمولية، مثل اللجان الثورية في ليبيا أو التنظيمات الجماهيرية في كوريا الشمالية، واتهموها بممارسة الرقابة السياسية والتجسس على القوى الحية من تنظيمات سياسية ونقابية، فضلاً عن كونها أداةً استخدمتها السلطة لقمع الأصوات المعارضة.
ورغم الجدل الدائر حولها، فقد حققت هذه الهياكل انتشارًا واسعًا، حيث مكّنت حملة تنصيبها عام 1983 من إقامة 2828 حيًا و418 منطقة و48 لجنة إقليمية و13 لجنة جهوية، جميعها تعمل وفق برامج تدخل في إطار السياسة العامة للجنة العسكرية للخلاص الوطني، لكن سرعان ما بدأ نفوذ هذه الهياكل بالتراجع عقب انقلاب 12 ديسمبر 1984 الذي أطاح بنظام المقدم محمد خونا ولد هيداله، إلى أن انتهت رسميًا مع تبني دستور 20 يوليو 1991، الذي أرسى التعددية السياسية وأعاد هيكلة المشهد السياسي الموريتاني.
أولا: التنظيم الهرمي لهياكل تهذيب الجماهير
اعتمدت هياكل تهذيب الجماهير على تنظيم صارم يتدرج من المستوى الوطني إلى القاعدي، بحيث يكون كل مستوى حلقة في سلسلة هرمية تهدف إلى ضبط المجتمع وتوجيهه وفق الرؤية الرسمية.
1. المستوى الوطني: اللجنة التنفيذية الوطنية
في قمة الهرم، وُجدت اللجنة التنفيذية الوطنية، التي كانت تعمل تحت إشراف الأمانة الدائمة للجنة العسكرية للخلاص الوطني، تولّت هذه اللجنة وضع السياسات العامة لهياكل تهذيب الجماهير، والإشراف على تنفيذها عبر المستويات الأدنى.
تتشكل اللجنة من:
- الرئيس: الأمين الدائم للجنة العسكرية للخلاص الوطني.
- نائب الرئيس: الأمين الدائم المساعد.
الأعضاء:
- الأمين المكلف بالتوجيه.
- الأمين المكلف بالتنظيم.
- الأمين المكلف بالاقتصاد والعمل التطوعي.
- الأمين المكلف بالثقافة والتوجيه الإسلامي والعمل الاجتماعي.
2. المستوى الجهوي (الولاية): اللجان الجهوية
على مستوى الولايات، شُكلت اللجان الجهوية، التي تولّت تنفيذ السياسات الوطنية محليًا وإعداد برامج تتناسب مع خصوصيات كل ولاية.
تشكّلت اللجنة الجهوية من:
- الرئيس: قائد المنطقة العسكرية (وفي حالة عدم وجوده يتولى الوالي الرئاسة).
- نائب الرئيس: إذا كان قائد المنطقة العسكرية رئيسًا، فالوالي هو نائب رئيس، وإذا كان الوالي رئيسًا، فالنائب هو الوالي المساعد المكلف بالشؤون الإدارية.
الأعضاء:
- مسؤول عن الأنشطة.
- مسؤول عن اليقظة.
- مسؤول عن العمل الجماهيري.
- مسؤول عن الخزينة.
- مسؤول عن الإمدادات والمواد الغذائية.
- مسؤول عن الشباب.
3. المستوى الإقليمي (المقاطعة): اللجان الإقليمية:
على مستوى الدوائر، أُنشئت اللجان الإقليمية، التي كانت مسؤولة عن تنفيذ ذات المهام التي تضطلع بها اللجان الجهوية ولكن على نطاق أضيق.
تشكيلة اللجنة الإقليمية:
- الرئيس: الحاكم.
الأعضاء:
- مسؤول الأنشطة.
- مسؤول اليقظة.
- مسؤول عن العمل الجماهيري.
- مسؤول عن الخزينة.
- مسؤول عن الإمدادات والمواد الغذائية.
- مسؤول عن الشباب.
4. المستوى المحلي (المنطقة): مكاتب المناطق
على المستوى المحلي، تم إنشاء مكاتب المناطق، التي كانت مسؤولة عن التنسيق بين مختلف الأحياء أو المناطق الريفية.
تشكلة مكتب المنطقة:
- المنسق العام (رئيس المركز الإداري إذا وُجد، أو يتم انتخابه من قبل مكاتب الأحياء).
- نائبين للمنسق العام.
5. المستوى القاعدي (الحي): مكاتب الأحياء
تمثّل مكاتب الأحياء حلقة الوصل المباشرة مع المواطنين، حيث كانت مسؤولة عن تعبئة السكان وضمان تنفيذ القرارات الوطنية على المستوى الشعبي.
تشكلة مكتب الحي:
- منسق الحي ونائبه.
- مسؤول الأنشطة ونائبه.
- مسؤول اليقظة ونائبه.
- مسؤول التموين والإمدادات ونائبه.
- مسؤول نظافة الحي ونائبه.
6. المستوى الأدنى (الخلية)
الخلية هي أصغر وحدة في هياكل تهذيب الجماهير، وتتكون من 10 أسر (وقد تصل استثنائيًا إلى 13 أسرة).
مسؤول الخلية يُختار من قبل رؤساء الأسر، ويتولى مهام التعبئة والتواصل مع المستويات الأعلى لضمان تنفيذ التوجيهات الوطنية.
ثانيا: الجدل حول هياكل تهذيب الجماهير
1. رؤية أنصارها: تجاوز البنى التقليدية نحو دولة حديثة
يرى المدافعون عن هياكل تهذيب الجماهير أنها قدّمت تجربة فريدة في بناء مواطنة حديثة، تقوم على الولاء للدولة بدل الولاءات التقليدية القبلية أو الجهوية.
ويعتقد هؤلاء أن هذه الهياكل ساهمت في إدماج المواطنين في الحياة العامة، وأتاحت فرصًا للمشاركة في العمل الجماهيري، بعيدًا عن الاعتبارات الضيقة التي كانت تهيمن على المشهد السياسي قبل إنشائها.
2. انتقادات المراقبين: أداة للرقابة والقمع
في المقابل، يرى المعارضون أن هذه الهياكل لم تكن سوى نسخة من الأنظمة الشمولية، حيث استُغلت لممارسة الرقابة المشددة على المجتمع، والتجسس على الحركات السياسية، سواء كانت قومية أو أممية أو حقوقية.
واتُهمت هذه الهياكل بأنها سعت إلى ضبط المجتمع بطريقة قسرية، مع فرض عقوبات على كل من يخرج عن الخط المرسوم من قبل السلطة.
ثالثا: المشاركة الشعبية في اختيار قيادات الهياكل:
على الرغم من الإطار التنظيمي الذي كان يفترض أن يشارك فيه المواطنون في تحديد مسؤولي الهياكل، فإن أغلب القيادات العليا كانت تُعين من قبل اللجنة العسكرية للخلاص الوطني، مما جعل شكل المشاركة الشعبية في هذه الهيئات محصورًا في اختيارات محدودة ضمن الهياكل القاعدية والمحلية.
1. القيادات العليا: يتم تعيين رئيس اللجنة التنفيذية الوطنية وأعضاؤها من قبل اللجنة العسكرية، وكذلك كانت رؤساء اللجان الجهوية والإقليمية يتم تعيينهم من قبل الحكومة، على الرغم من أن قادة هذه اللجان غالبًا ما كانوا ضباطًا عسكريين أو مسؤولين إداريين، هذا التعيينات خلقت تصادمًا بين مبدأ المشاركة الشعبية وبين الطابع العسكري والإداري المسيطر على معظم هذه الهياكل.
2. اللجان الجهوية والمحلية: في حين أن هذه الهياكل كانت تحت إشراف مسؤولين معينين من أعلى، فإن اختيار بعض الأعضاء على مستوى اللجان الجهوية والإقليمية والهياكل المحلية كان يتم من خلال المشاركة الشعبية، وذلك ضمن هيئات أصغر مثل مكاتب المناطق أو الأحياء.
رابعا: تراجع دور هياكل تهذيب الجماهير
على الرغم من الدور البارز الذي لعبته هذه الهياكل في بداية تأسيسها، إلا أن تأثيرها بدأ في التراجع بعد انقلاب 12 ديسمبر 1984، الذي حمل تغييرات سياسية أثرت على هيكل السلطة.
ومع التحولات الاقتصادية والاجتماعية، تراجعت فعالية هذه الهياكل، لتصبح جهازًا بيروقراطيًا يمارس أنشطته بشكل روتيني، دون تأثير حقيقي في المجتمع.
ومع تبني دستور 20 يوليو 1991، دخلت موريتانيا مرحلة جديدة من الانفتاح السياسي، وتم حل اللجنة العسكرية للخلاص الوطني، التي كانت هياكل تهذيب الجماهير أحد أبرز أذرعها التنظيمية، لينتهي بذلك وجودها رسميًا.
خاتمة: إرث تجربة سياسية
على الرغم من تباين المواقف تجاه هياكل تهذيب الجماهير، إلا أنها تبقى جزءًا من الذاكرة السياسية لموريتانيا، حيث مثلت محاولة مثيرة لإعادة تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبينما يرى البعض فيها تجربة طموحة لتنظيم المجتمع وتعزيز المواطنة، يعتبرها آخرون مثالًا على تحكّم السلطة في الأفراد، وقمع الأصوات المعارضة.
ومع ذلك، فإن هذه التجربة، رغم انتهائها رسميًا، تظل نموذجًا يستحق الدراسة لفهم طبيعة الأنظمة الشمولية، وسبل تعاملها مع المجتمعات التي تسعى للهيمنة عليها وتحقيق السيطرة الكاملة عليها.