لقد حركت دعوة رئيس الجمهورية الفرقاء السياسيين للانخراط الفعلي في التحضير التشاركي لما سماه بالحوار الوطني الجامع، المياه الراكدة في الساحة السياسية الوطنية ولامست هوى في نفوس مختلف الفرقاء السياسيين الذين طالما دعوا إلى حوار وطني يرونه ضروريا لإصلاح ما أفسدته الأحداث التاريخية والتجاذبات السياسية، ليس فقط في إدارة الشأن العام والعلاقة بين الحاكم والمحكوم وإنما في صميم الوحدة الوطنية والنسيج المجتمعي.
لقد عرفت موريتانيا منذ الاستقلال عام 1960 عدة حوارات سياسية لعل من أكثرها أثرا في الحياة السياسية الوطنية حوار 1991 الذي أقر التعددية الحزبية، وحوار 2006 الذي انتهى لمرحلة انتقالية أعادت البلاد إلى المسار الديمقراطي وكان لها كبير الأثر في تطوير الحكامة السياسية؛ بالإضافة إلى ما شهدته البلاد خلال السنوات الأخيرة من حوارات جزئية بين الداخلية من جهة والأحزاب السياسية من جهة ثانية، حول التحضير التشاركي للانتخابات، وأفضت إلى إدخال بعض الإصلاحات المهمة في إدارة وتسيير العملية الانتخابية.
دعوة رئيس الجمهورية الجديدة للحوار، جاءت وفاء بتعهد قطعه على نفسه في برنامجه الانتخابي وتماشيا مع سياسة الانفتاح على مختلف الفرقاء السياسيين التي انتهجها منذ وصوله سدة الحكم عام 2019، وسعياً إلى استكمال مسار التشاور الذي أطلقه عام 2022 تلبية لرغبة بعض الفرقاء السياسيين، - ولم يكتب له النجاح للأسف - وقد حرص رئيس الجمهورية على التأكيد أن هذا الحوار يجب أن يكون شاملًا ويضم جميع الأطراف.
وقد لاقت دعوته ترحيبا واسعا داخل الأوساط السياسية التي عبرت عن استعدادها للحوار، شرط تمكينها من المشاركة في تصور ما ينبغي أن يكون عليه، وهو ما بدأت خطواته العملية بتكليف السياسي موسى افال باستقبال مقترحات الفرقاء السياسيين بشأن الحوار المرتقب.
لكن قبل أن يسبق السيف العذل، على من سيتولون وضع خارطة الحوار أن يعوا أنه لا ينبغي أن يقتصر على القوى السياسية التقليدية لأن مياها كثيرة جرت من تحت الجسور، ولم تتمكن القوى التقليدية في البلد، لأسباب قد تكون موضوعية، من استيعاب ومواكبة التغيرات العميقة التي عاشها ويعيشها المجتمع بفعل العولمة وارتدادات الأزمات الاقتصادية المتلاحقة، كما لم تستطع هذه الطبقة تجديد نفسها بنحو يضاهي النمو الديمغرافي للسكان ويلبي تطلعات الأجيال الجديدة.
كل المؤشرات كانت توحي بأن المجتمع الموريتاني مجتمع شاب؛ لكن كان صادما بالنسبة لي شخصيا - على الأقل - أن نسبة السكان الأقل من 15 سنة تشكل 41،5% من مجمل السكان، والأعمار الأقل من 20 سنة تمثل نسبة 53% من السكان، حسب الإحصاء الأخير، وهي أرقام تطرح من التحديات أكثر بكثير مما تفتح من الآفاق (على المديين القريب والمتوسط)، وهو ما يفرض على المتحاورين التوقف مليا عندها والتفكير في وضع سياسات تربوية واجتماعية واقتصادية قادرة على تمكين هذه الفئة من العبور إلى بر الأمان.
يجمع الفرقاء السياسيون أن التحضير التشاركي الجيد للحوار هو صمام أمان نجاحه، غير أن هذا التحضير لا ينبغي أن يقتصر على الفرقاء السياسيين ولا حتى "الجمعويين" بل يجب أن يتجاوز ذلك إلى توظيف التكنولوجيا الحديثة للوصول إلى أكبر قدر ممكن من الموريتانيين في الداخل والخارج.
ومن نافلة القول أن الإشكاليات المطروحة للشعب الموريتاني لم تعد سياسية بقدر ما هي اقتصادية واجتماعية، وأي حوار لم يصل لحل دائم ينهي مشكلة الإرث الإنساني ويضع حدا لمخلفات العبودية وأزمة الملكية العقارية وغيرها من المشاكل التي باتت تهدد النسيج الاجتماعي، ناهيك عن ضرورة التوافق على تحديد الأولويات التنموية للبلد، ووضع آليات تضمن التسيير المعقلن للثروة، وتحسين الخدمات الأساسية، وتعمل على مراجعة الاتفاقيات مع الشرائك الأجنبية التي تستنزف الثروة الموريتانية، أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه دون المأمول.
ورغم جو الإجماع الذي يطبع المشهد السياسي، بضرورة الحوار وضرورة النأي به عن المناورات السياسية، والعمل على أن يُفضي إلى نتائج عملية تُترجم على أرض الواقع؛ فإن آراء الفرقاء السياسيين متباينة حول ما ينبغي التحاور عليه، وهو ما يستدعي من الجميع استحضار المصلحة الوطنية وعدم الارتهان للبحث عن تحقيق مكاسب سياسية آنية.
وإلى أن تتضح ملامح الحوار فإن الطبقة السياسية مطالبة أكثر من أي وقت مضى بأن تكون أكثر نضجًا واستعدادًا للتعامل مع كل القضايا الوطنية القديمة والمستجدة، وأن تغتنم هذه الفرصة التي جاءت في وقت لم يعد يختلف فيه اثنان على ما تشهده البلاد والمحيط الإقليمي والدولي من تغيرات عميقة تستدعي العمل على تشكيل مشهد اجتماعي وسياسي أكثر انسجاما واستقرارا؛ والحوار الذي نريد - بل نحتاج - يجب أن يصل إلى حلول مستدامة لجميع القضايا الوطنية الكبرى، التي بات تأجيل حسمها يهدد الوحدة الوطنية والنسيج الاجتماعي.