كُنتُ شاهدًا –قبلَ عَقْديْنِ مِن الزَّمنِ- على مَشهدٍ لَمْ أَكُنْ لِأُصَدِّقَهُ لوْ لَمْ تقعْ عينايَ عليهِ: أبٌ في يمينهِ سوطٌ -وقدِ احمرَّتْ عيناهُ، وانتفخَ وَدَجاهُ- وهوَ يُوسِعُ بهِ صبيًّا ضربًا، والصَّبيُّ يَتَرَنَّحُ أمامَه، ويتوسَّل، ويَتَزَمَّلُ بأسْمالِهِ اتِّقاءً لِلَسَعاتِ السَّوطِ التي تخترقُ جسدَهُ الغَضَّ دونَ شفَقَةٍ أوْ رحمةٍ.
أقحمْتُ نفسِي في هذهِ المعركةِ غيرِ المتكافئةِ، مُشَكِّلًا حاجزًا بينَ الْبُرْعُمِ البريءِ والأبِ الهائجِ، ثمَّ بادرتُ الأبَ بالسُّؤالِ: ما خَطْبُ صغيركَ حتّى استَحَقَّ هذَا الجزاءَ؟.
جاءَ الرَّدُّ بصوتٍ يُزْبِدُ، ويُرْعِدُ، ويَتَوَعَّدُ: "مَرَّ أمامِي وأنَا أُصَلّي! وكَمْ حذَّرْتُهُ منَ المرورِ بينَ يدَيِ المصلّي، فما ارْعَوى. وإنّي لَمُلَقِّنُهُ درسًا لنْ ينساهُ علَى رَغْمِ أنْفِ بلادتِهِ"!.
ما كادَ يُنهِي حديثَه حتّى قفزتْ إلى ذهنِي صورةُ أحدِ السِّبطيْنِ -رضيَ اللهُ تعالى عنهما- وهوَ يَمْتَطي ظهْرَ النَّبيِّ -صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ- أثناءَ سجودِهِ، في صلاةٍ مكتوبةٍ، إمامًا لجمْعٍ منَ الصَّحابةِ، وردَّةُ فعْلِ الرَّحمةِ الْمُهْدَاةِ على ذلكَ بإطالةِ السُّجودَ تَلَطُّفًا بالصَّغيرِ حتّى نزلَ منْ تلقاءِ نفسهِ.
***
تُعانِي الطُّفولةُ، عندنا، منْ آثارِ جفافِ المشاعرِ، ونقْصِ التَّنْشِئَةِ الاجتماعيّةِ، وخَلَلِ المفاهيمِ التربويّةِ، ضِمْنَ مسلسلٍ طويلٍ منَ المعاناةِ والتحدّي يَحْفَلُ بهما ملَفُّ الطفلِ في المنكِبِ البرْزَخِيِّ. وسنحاولُ -في السطورِ اللاحقةِ- مقاربةَ ظاهرتينِ منْ إفْرازِ ذلكَ المسلسلِ، تعكِسُ أُولاهما فَقْرًا عاطفيًّا في تعاملنَا معَ الرُّضَّعِ، وتَتَّصِلُ الثانيةُ بفَرْطِ الحرَكَةِ والجُمُوحِ السلوكيِّ لدَى الأطفالِ قُبيلَ سِنِّ "التمَدرُسِ"، مُتسائلينَ عنِ الأسبابِ، وباحثينَ في العلاقاتِ.
***
حُبُّ الصِّغارِ جِبِلَّةٌ طَبَعَ اللهُ عليهَا قلوبَ خلقِهِ. لا مِراءَ في ذلك، ولا جدالَ. بَيْدَ أنّ العِبْرَةَ ليستْ بِمَا إنْ كانَ الحبُّ حاصلًا أصْلًا أمْ لا، وإنّما بالشكلِ الذِي يُعَبِّرُ بهِ هذَا الحبُّ عنْ نفسِهِ. لا نَتَحَدَّثُ هُنا عنِ التَّربيّةِ والتَّعليمِ ومُقْتَضَيَاتِهِمَا التقليديّةِ؛ بلْ عنْ: مظاهرِ الحَنانِ، وتَجلِّياتِ التَّدفُّقِ العاطفيِّ، وإبداءِ مَكْنُونِ النَّفسِ البشريّةِ ومَخْزونِها منْ مشاعرَ وأحاسيسَ إزاءَ الصِّغارِ: كالهَدْهَدَةِ، والْمُنَاغَاةِ، والتَّرْبِيتِ، والتَّرْقِيصِ بِالأهازيجِ، والتَّبَسُّطِ بوَجهٍ عامٍّ، علَى نَحْوِ ما يُشاهَدُ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها، وعلَى نحوِ ما أُثِرَ عنِ السَّلَفِ الصَّالحِ. فقدْ أوردتْ كُتُبُ السِّيَرِ والتَّاريخِ أراجيزَ وأناشيدَ داعَبَ بها الكبارُ صغارَهمْ، ورَقَّصوهم بها. فهذهِ حليمةُ السعديّةُ -رضيَ اللهُ عنها- كانتْ تُرَقِّصُ الحبيبَ المصطفَى -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- بِرَجَزٍ يُحقِّقُ وظيفةَ التَّطريب، ويتضمَّنُ الدُّعاءَ لهُ، والدعاءَ على شانئيه:
يا ربِّ إذْ أعْطَيْتَهُ فَأَبْقِهِ***وأَعْلِهِ إلَى العُلَا ورَقِّهِ***وادْحَضْ أَباطِيلَ العِدَا بِحَقِّهِ.
وتلكَ هندُ بنتُ عتْبةَ بَلَغَ التَّرقيصُ عندها أنْ عَدَلَتْ عنِ اسمِ ابْنها -عبداللّهِ بن الحَرث -والي البصرة في عهد بني أمية– إلى لقَبٍ ارْتَجَلَتْهُ لهُ، وأخذَتْ ترقِّصُهُ بهِ، حتّى عُرِفَ بهِ كبيرًا، وهوَ: (بَبَّة)؛ حيثُ تقولُ:
لأُنْكِحَنَّ (بَبَّهْ)***جارِيةً خِدَبَّهْ***مُكْرَمةً مُحَبَّهْ
***
في مقابلِ هذا الفَيْضِ منَ الحنانِ الذي تَغْمُرُ بهِ المجتمعاتُ الإنسانيةُ –قديمًا وحديثًا- أطفالَها، وتُغْدِقُهُ على أَفْلاذِ أكْبادِها نَجِدُ مجتمعَنا -والكرَمُ الخُلُقيُّ منْ سماتهِ- يكادُ يجعلُ يدَهُ مَغْلولةً إلى عُنُقِهِ في التَّلَطُّفِ بالطِّفلِ. وسأَسوقُ على ذلكَ مثالينِ يُمكِنُ القياسُ عليهمَا:
المثالُ الأولُ: استهجانُنَا هَدْهَدَةَ الوالدينِ أطفالَهما بحضورِ كبارِ السِّنِّ من الأقاربِ والأصهارِ؛ باعتبارِ أنَّ ذلكَ سلوكٌ ينافي الحياءَ! ومِنَ المَشاهِدِ التي تتكرّرُ في مجالسنَا تَنَكُّرُ الأبِ لابنِهِ حينَ يَدِبُّ إليهِ في مجلسٍ يضمُّ مَنْ هوَ أكبرُ منَ الأبِ سِنًّا، فَيَجِدُ عقلُ الطِّفلِ القاصرُ عَنَتًا في تفسيرِ سلوكِ أبيهِ المفاجئِ، ويُصِرُّ على مواصلةِ الدَّبيبِ إليهِ، فتأخذُ الأبَ العزَّةُ بالإثمِ، ويتمادَى في غَيِّهِ، فيَنْفَجِرُ الصَّغيرُ بُكاءً، مُنَغِّصًا هدوءَ المجلسِ وسكينتَهُ، فيَتَدَاعَى كبارُ السِّنِّ لوضعِ حدٍّ لحالةِ طوارئَ ما كانَ لها أنْ تُوجَدَ لوِ استقامَ القومُ على الطريقةِ، ولمْ يقترفُوا في حقِّ الطِّفلِ ما اقترفُوا.
المثالُ الثاني: سلوكُ بعضِنا -حينَ يُهَدْهِدُ الطِّفلَ أوْ يُرقِّصُهُ- مَسْلَكًا عُدْوانِيًّا عنيفًا (اتْحَجْلِيبْ لَحْرَشْ) تَنْحَرِفُ فيهِ الهَدْهَدَةُ عنْ أنْ تكونَ منبعَ إسعادٍ للطِّفلِ إلى مصدرٍ لشقائهِ، ويَتَحَوَّلُ سلوكُ التَّرقيصِ إلى أمرٍ مناقضٍ للغايةِ منهُ، وهي:
التَّطريبُ وإدخالُ المسرَّةِ. تَرَى الفرْدَ منْ هؤلاءِ –وهوَ يرقِّصُ الوليدَ- يَمُدُّ إليهِ يدَهُ بالسُّوءِ: "فَيَصْفَعُهُ" على وجهِه! أوْ "يَقْرُصُهُ" في جلدِهِ! أوْ "يُرَوِّعُهُ" بِمَا يَحْمِلُ المسكينَ على أنْ يملأَ المكانَ صُراخًا لَا يَعْدِلُهُ إلّا قَهْقَهَةُ الْمُهَدْهِدِ العنيفِ اسْتِمْتاعًا بسلوكِهِ الغريبِ في "سَادِيَّةٍ" لا تُخْطِئُ العينُ كثيرًا منَ المصابينَ بها بينَنا!
متَى كانَ التَّعبيرُ عنِ المشاعرِ الإيجابيّةِ بالصفْعِ والقَرْصِ والتَّرْويعِ؟ وكيفَ نُحيلُ ابتسامةَ طفلٍ بريءٍ، تَسْتَدِرُّ الشَّمَّ والتَّقبيلَ، بُكاءً جالِبًا لسرورِنا وحاديًا لأفراحِنا؟ إنه عُدولٌ بَيِّنٌ عنِ الفِطرةِ في مجتمعٍ يُفاخِرُ بالفطرةِ والبساطةِ. وذاكَ –لَعَمْري- مِنَ المفارقاتِ التي تستعصي على الفهمِ.
***
تَبَلُّدُ الأحاسيسِ والمشاعرِ تجاهَ الأطفالِ أنكرَهُ النبيُّ –صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ-: وعَدَّهُ نَزْعًا للرّحمةِ منَ القلبِ! (كما في الصَّحيحينِ وغيرِهما). وربّما تكونُ لهُ علاقةٌ ببعضِ العواملِ الآتيةِ، أوْ كلِّها:
الانحرافُ الاجتماعيُّ في تأويلِ بعضِ المفاهيمِ (مفهوم الحياء (السَّحْوَة) مثلًا).
التَّأثُّرُ ببعضِ الأعرافِ والقيَمِ البائدةِ لِثُلَّةٍ منَ الأولينَ كانَ رجالُها يَسْتَنْكِفُونَ أنْ يُقبِّلوا أطفالَهمْ! (ورَدَ ذلكَ في الصَّحيحينِ وغيرِهما).
خشونةُ الصَّحراءِ؛ إذْ تُلقِي البيئةُ البدويّةُ بظلالِها علينَا، وَتَسِمُ سلوكَنا ببعضِ الجفاءِ، فيتسَرَّبُ منّا ذلكَ مضاعفًا -عبْرَ اللَّاوَعْيِ- إلى أطفالِنا!
***
لا يَبْعُدُ أنْ يكونَ لفقرِ مشاعرِنا، تجاهَ أطفالِنا، دوْرٌ في انْفِلَاتِ سلوكِهم مقارنةً بنظرائِهم في العالَمِ. ويكفي دليلًا على الجموحِ والانفلاتِ السلوكيّ لهؤلاءِ البراعمِ أنّ "طفلَنا" يأتِي معَ أترابٍ لهُ -مِن أعراقٍ وجنسياتٍ شَتّى- لزيارةِ منزلٍ ما، فيتصَرَّفُ الأتْرابُ وفقًا لما يَقتضيهِ الذَّوقُ العامُّ، بينما يندفِعُ "ابنُنا"، بِهَوَجٍ، إلى تفْريغِ طاقتِهِ الزَّائدةِ في تدنيسِ البيتِ، والعبَثِ بما لَطُفَ مِن مقْتنياتِهِ: كالكتبِ، وكاساتِ الزُّجاجِ، والمزهرياتِ، وطاولاتِ الدِّيكورِ، وغيرِ ذلكَ ممّا يُزَيِّنُ، عادةً، صالاتِ استقبالِ الضيوفِ، في اتِّجَاهٍ مُعاكِسٍ للسلوكِ الحضاريّ الراقِي، وكأنَّما سلوكُ الطِّفلِ الموريتانيّ تَشَكَّلَ ليكونَ عدوًّا للتَّحضُّرِ، على وجهٍ يُذكِّرُنَا بما أوردَهُ ابنُ خلدونَ في مقدِّمته عنِ العربِ -ولسنا مُلزَمينَ بمتابعته- منْ أنّ "طبيعةَ وجودهِم مُنَافيَةٌ للبناءِ الذي هوَ أصلُ العُمرانِ" والحضارةِ! حُكْمٌ قدْ لا يروقُكَ، فترى فيهِ شيئًا منَ الشَّطَطِ أوِ المبالغةِ، لكنَّ عَيْنًا غَيْرَ عَيْنَيِ الرِّضَا والسُّخْطِ ترى الواقعَ مؤيِّدًا لهُ، شاهدًا عليهِ.
***
يتعذَّرُ تفسيرُ ظاهرةٍ كهذهِ تفسيرًا معتادًا يُقتصرُ فيهِ على ضَعْفِ الوعْيِ الحضاريِّ للمجتمعِ، وحداثةِ عهدِهِ بالبداوةِ؛ لأنَّها (أي ظاهرة الجموحِ السلوكيّ) لاحَقَتْ أبناءَنا بعدَ هجرةِ ذويهمْ إلى أقطارٍ تُصنّفُ متحضِّرَةً. فكيفَ ظلَّ سلوكُ أولئكَ الأبناءِ فيهِ شَبَهٌ بسلوكِ بعضِ الْمَرَدَةِ والعَفَاريتِ على رَغْمِ أنّهم وُلدوا وتَرَعْرَعوا في بيئاتٍ أنعمَ اللهُ على أهلِها بحظٍّ وافرٍ منَ المدنيّةِ؟.
إنّنا نزعُمُ – والزَّعْمُ يتقاطعُ معَ الحَدْسِ والتَّخمينِ- أنّ النَّشاطَ الزَّائدَ وفَرْطَ الحركةِ لدَى أطفالِنا لهُ صلَةٌ بطبيعةِ نظامِنا الغذائيّ الذي منَ المحتمَل أنهُ يتضمَّنُ عناصرَ موَلِّدَةً للطَّاقَةِ الزَّائدةِ! فيُضْطَرُّ الطِّفلُ -بتأثيرٍ مِنْ ذلكَ- إلى: الطَّيْشِ، والنَّزَقِ، والرُّعونَةِ. وقد يُزَكِّي هذا التَّحليلَ أمرانِ:
الأولُ: أنَّ الدِّراساتِ العلميّةَ تربطُ بينَ جنسِ الغذاءِ وطبيعةِ الشَّخصيةِ: صحَّةً، ومرضًا، وسلوكًا! حتّى انّ الدكتورةَ (جيليان ماكيث ( Gillian Mckeith)) ألَّفتْ كتابًا تحتَ عنوانِ: "أنتَ: ما تأكلُهُ" (You Are What You Eat).
الثاني: أنَّ الأسَرَ الموريتانيّةَ المهاجرَةَ تُهاجرُ "بثقافتِها الغذائية" معها، فيظَلُّ أَثَرُ النِّظامِ الغذائيِّ ساريًا في سلوكِ الطِّفلِ، وتكونُ استجابتُه لما في بطنِه أقوَى مِنِ استجابتِهِ لما يتفاعَلُ معهُ، ويَدُورُ حولَهُ!.
***
وأيًّا ما يَكُنِ الأمرُ فإنّنا نُعاني شُحًّا في "مواردِنَا العاطفيّةِ" نحوَ أطفالنا، تُقابلُه طَفْرَةٌ في "السُّلوكِ غيرِ المنتظِمِ" لدَيهمْ. وقدْ لعبتْ في بروزِ هاتينِ الظَّاهرتينِ -اللَّتَيْنِ ربّما يكونُ لأولاهُما دَوْرٌ في ترسيخِ الأخرَى- عواملُ متداخلةٌ: بيئيّةٌ وإنتروبولوجيّةٌ يُوَحِّدُ بينَها أنّها بَوَّأَتْ طُفولتَنا مَقاعِدَ للنَّشازِ.