على مدار الساعة

أيام الله الحالكات

11 يونيو, 2025 - 19:31
بقلم: عز الدين مصطفى جلولي - كاتب وأستاذ جامعي جزائري

عطاء الذليل

سيرة الرئيس الأرغواني الزاهد "خوزيه موخيكا" المحببة للناس نزر يسير من أوصاف المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وخلفاؤه الراشدون، في ميراث النبوة كنوز لا تفنى من الأخلاق السياسية يجهلها الكثير، وينتقص من شأنها القليل. قضى هذا الرجل اللاتيني نحبه محروما من شهادة حق تنجيه بين يدي ربه تعالى، ومع ذلك، فقد كان بتواضعه وزهده قرينا مناقضا لزعمائنا المترفين، عاش حياته لمبادئ أحبها وآمن بها، ولم يعش للعروش ولا للكروش. ومات مذكرا هؤلاء المبذرين بأسوتهم الخالدة قبل أن تتخطفهم أيدي المنون.

 

ومما نجهله أيضا أن هذه "الإنجازات" الترامبية التي يزفها إلى شعبه في كل مرة لا تعنينا نحن كأمة مختلفة، بل إن أكثرها يضر بنا، وما حققه الرجل لنفسه ولشعبه له طعم واحد هو المال، فأين وُجد المال وجدت الترامبية. واللعب معه في هذه الساحة بمال الأمة أمر خطير للغاية، ينخر في عضد الأنظمة التي أبانت عن وجهها الكالح وتفكيرها المسرطن، والأمور في ميزان الفاعل الأكبر الله سبحانه بخواتيمها، وهي معروفة عند كل من تدبر في آيه المبين.

 

العقار الذي سيجعل الطبخة مستساغة على الدوام هو المال، ومزيد من المال، ليضمن الاستمرارية من كان يحكم في الخليج بأية وسيلة كانت. أما حل الدولتين لقاء التطبيع بين الكيان والمملكة فذلك كفر بواح، الله وحده يعلم تداعياته على من سيتجرأ على التوقيع عليه.

 

ومن السابق لأوانه الحديث عن مخرجات آمنة في هذه الحقبة التي نعيش فيها، بتصور عالمين أحدهما آفل والآخر طالع، خاصة فيما يتعلق باستقرارنا وازدهارنا. هذه أحلام يقظة لا مطمع في تحققها في ظل احتلال أخطبوطي وأنظمة سياسية لا علاقة لها بالحرية واحترام إرادة الأمة، التي تراقب عن كثب كيف تدار شؤونها بطريقة لا ترضيها، طريقة استفزازية تجعلها حانقة أكثر على أداء قادتها، بعد القرارات الغبية الموقعة بأيد مبسوطة وشعور مرسلة بحرية لا حدود لها، أثناء زيارة الرئيس الأمريكي لدول الخليج.

 

استكبار في الأرض

الولايات المتحدة وحلفاؤها لا يمتلكون كل هذه القدرة للهيمنة على الحياة السياسية، ولا يمسكون بخيوط الحراك الدبلوماسي والعسكري على الأرض، لذلك فقضايا الشعوب خراج نطاق السيطرة، ومن تجلياتها الربيع العربي وثوراته. وإن دعوة السلطات المصرية وكل الأنظمة الاستبدادية إلى المصالحة مع الماضي الأليم حفاظا على صولة الراعي الأمريكي أن يمسها من دون العودة إلى الأمة وتطلعاتها رأي لا يرجّى منه خير. ومما لا تعيه هذه الأنظمة أيضا أن علاقتها بالاستكبار العالمي ما هي إلا متعة ساعة، وسيطلب الأمريكي وغيره التغيير وسيطلب المزيد، والدور القادم على ممالك الخليج.

 

من السذاجة أن نصدق هذه الخدعة، خدعة قطع الاتصال بين "ترامب" و"نتنياهو"، لم يحدث هذا من قبل، إلا قبيل توجه الرئيس الأمريكي إلى المملكة السعودية والإمارات وقطر لقبض تريليونات من الدولارات هي أقوات الأجيال القادمة، علما بأن نصيبا من هذا المال الضخم ستحوله الإدارة الأمريكية إلى الكيان المجرم على شكل مساعدات نقدية وعينية، على رأسها القنابل التي تبيد أهلنا في غزة. خسر البيع ابن سلمان!

 

إن ما سيناله المضيفون فتات موائد، وسيعود الضيف مثقلا بالكنوز، ويترك المنطقة على نار هادئة حتى تنضج خطة جديدة. أما التحرير الكامل لفلسطين والوحدة الإسلامية في قلب الأمة وحق الشعوب في الانعتاق من الاستبداد والعيش بعزة وكرامة فأحلام لا ترى في منام هؤلاء المماليك ولا في يقظتهم.

 

ومن الواجب على القيادة السورية أن تضع شعبها ومؤيديها في صورة ما تفعل، خاصة فيما يشيعه الأمريكان عن نية الرئيس الشرع السلام مع الكيان الصهيوني لقاء المساعدة والمال.

 

إن الله لم يجعل رزقكم في ما حرم عليكم، ووضع السوريين وهم في هذه الظروف الصعبة أحسن حالا من الغزاويين والأفغان واليمنيين، الذين لم يعطوا الدنية في دينهم رغم الحصار والتجويع والتقتيل.

 

وليس من الحكمة السياسية مواجهة المجتمعات المحافظة التي صبغت القرون الطويلة أناسها بخلال حسنة حين يفرحون وحين يحزنون. إنها دمشق عاصمة الخلافة وعرين العروبة والإسلام. ومواجهة المجتمع الشامي في تدينه الفطري المعروف معركة خاسرة لا محالة، خاصة وأن من يريد حمل الناس على آراء فقهية معينة تعجبه مخالفة للمذاهب التي سادت في تلكم البلاد وبحكم القوة القاهرة التي يملكها ليس عملا إصلاحيا مبرورا، مع العلم بأن كثيرا من التوجهات الجديدة منبعها حنبلي الفقه، وفي طبعته الخليجية المعروفة، والذي خلعت جلبابه عنها السلطات الملكية هناك وتحرر منه المجتمع بطريقة متفلتة من عقالها. لذلك أهيب بالسلطات السورية الجديدة أن تتبنى نهجا وسطيا، وتبني أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر على أساسه؛ لتسلم من المجتمع ويسلم هو منها.

 

بيوع رابحة وخاسرة

ربط الخلخلة التي حدثت في دول المنطقة بالربيع العربي والتفكك المجتمعي بالطائفية التي أذكتها بعنف إيران، كمن يجعل النتائج مقدمات، والمقدمات لا أثر لها. وعليه، أسأل كيف كان الحال في الدول العربية قبل الربيع وقبل الثورة الخمينية؟ ألم تكن هنالك نزاعات وحروب وعداوات بين العراق وسورية، وبين المغرب والجزائر، وبين سورية والأردن، وبين لبنان وسورية، وقبل ذلك بين مصر واليمن؟ ولا نتكلم عن الخلافات البينية التي لا تنتهي لأسباب تافهة، يذكيها تنافر الأيديولوجيات التي حكمت تلك الدول بعد استقلالها وقبله أيضا إبان الاحتلال والانتداب، والقصة أطول من أن تروى ها هنا، لنعود إلى الثورة العربية الكبرى وتفتيت الحاضنة الروحية للأمة الإسلامية المتمثلة آنذاك بالخلافة العثمانية؟ ودور الوهابية السياسية في دق إسفين في قلب العالم الإسلامي، بالتوازي مع تعرض القبلة الأولى للاحتلال الصهيوني، الحية النازفة التي تضطرب الآن.

 

لا يوجد من سيتبنى الوحدة من الأنظمة القائمة في بلاد العرب كي يطرحها على مجلس الجامعة المنعقد دوريا بلا منفعة تذكر، والمجتمعات المدنية لا تزال موجودة في الساحة ولكنها تفتقد إلى الفاعلية وتعيش بمعزل عن شعوبها. أظن بأن قلب الأطروحة هو الأقرب إلى الواقعية، أي نبدأ بالقواعد الشعبية ونستمع لما تطالب به وتنادي بموضوعية ونزاهة، فنستل من فيها ورقة مبدئية تكيف الأحزاب والجمعيات عملها على ضوئها، ويرفع كل في بلده على حدة مخرجاتها عبر الفعاليات الجماهيرية وعبر كل القنوات المتاحة إلى القادة الفعليين، ومن ثم إلى هذه الجامعة العربية الرثة التائهة.

 

متلازمة الرفاه وحق الشعوب في تقرير مصيرها صعبة التحقيق في هذه البنية العربية - التركية التي يقال إنها تشكلت خلال زفة "ترامب" إلى الخليج. الراعي الأمريكي للمنطقة الخليجية متغير المزاج والسياسة بحسب من يجلس في بيته الأبيض، ومصالح الكيان الصهيوني وتفوقه لا مراهنة على تبدلها في الدولة الأمريكية العميقة، ولو قدم العرب للأمريكيين الخليج كله كما يقدم فنجان القهوة التقليدي. تبقى الأسس التي يقوم عليها هذا التقارب بين العرب والأتراك هي ما سيحكم على نجاح التقارب أو فشله.

 

يختلط في هذه المساعدات المسمومة للفلسطينيين الحابل بالنابل، ولكن مهما كان الكيد حجمه كبيرا فلن يمر شيء هناك ما بقي أحبتنا في غزة طوع إرادتهم وإرادة الله. إن ما يصنع الفرجة في كل هذا الجنون حقا، هو مال الأمة السائب الذي وفد الأمريكيون لجمعه، ولولاه ما كان هنالك إرخاء للحبل المشدود أبدا، ولا كانت هنالك وعود مكذوبة دائما.