تَتَهَدَّدُ وطنَنا ثلاثُ قُوًى، النَّاظِرُ فيها، بادِيَ الرأيِ، يُخيَّل إليهِ، مِنْ مَوقعِها، أنّها تُمثِّلُ: إمّا عُمْقًا استراتيجيًّا للوطنِ، وإمّا جزءًا من ذاتِه، وعُنصرًا حيويًّا من كيانِه ووجودِه. ولكنْ عندما يَرْجِعُ البَصَرَ والفِكْرَ كَرَّتَيْنِ -ضمْنَ إطارٍ منَ النَّظرِ غيرِ التّقليديِّ- يتبيَّنُ لهُ أنَّ تلك القُوى إنْ هيَ إلّا غِيلانٌ تَتَزاحمُ وتَتسابَقُ منْ أجلِ الإجْهازِ على حُشاشَةِ نفسٍ انْتَزَعَ إنسانُها –يومًا ما- السّيادةَ على هذه الصّحراءِ الجرداءِ، وفَجَّرَ في أعماقِها يَنابيعَ فاضتْ -رغمَ البداوةِ- علمًا ومعرفةً، وشَعَّتْ نُورًا وحضارةً قبلَ أنْ تؤولَ حالُهُ إلى ما آلتْ إليهِ.
***
**) نَعْني "بالقُوى" في هذا السّياقِ:
* القوّة الطبيعيَّة: ممثّلةً بالمحيطَ الأطلسيِّ، وبحرِ الرِّمالِ المتحرِّكة.
* والقوَّةَ البشريَّةَ: ممثَّلةً بابنِ الصَّحراءِ المنتمي إلى هذا الوطنِ. (ويمثِّلُ كلٌّ من هذه "القُوى" محيطًا، بوجهٍ ما. فالأول: محيط مائي، والثاني: محيط رملي، والثالث: محيط بشري أو اجتماعي).
**) ونَرمي منْ وراءِ عَرْضِ السِّباقِ إلى إبرازِ بعضِ التَّحدياتِ التي نُعاني منها -بيئِيًّا واجتماعيًّا- معاناةً قدْ تُشكِّلُ خطرًا وجوديًّا علينَا.
***
دَعْنا، في البدايةِ، نَتَّفِقْ على إقصاءِ النّظرةِ النّمطيَّةِ المركوزةِ فينا، عنْ هذهِ المحيطاتِ الثّلاثةِ، مِنْ دائرةِ التّناوُلِ، تلكَ النّظرةُ التي لا تَرى إلّا الجوانبَ المضيئةَ، والمناحيَ المشْرقَةَ، فهي غالبًا ما "تُمَجِّدُ"، و"تَتَغَنَّى"، و"تَصْدَحُ" بـــ:
*** أنَّ البحرَ هوَ: ذلكَ "الأزرَقُ الحَنونُ"، مَضْرِبُ المثَلِ في الكَرمِ بما أودَعَهُ اللهُ مِنْ ثروةٍ سمكيّةٍ، وما حَباه بهِ من جَمالٍ طبيعيٍّ أخّاذٍ، وما اختصَّهُ به من مَرافئَ ومَوانئَ تَجْعَلُ بلدَنا مَوطِنًا تُجْبى إليهِ ثمراتُ كلِّ شيءٍ رزْقًا مِن لَدُنِ المُعْطي الوهّاب.
*** أنَّ الصَّحراءَ رمالٌ ذهبيَّةٌ ساحرةٌ، وبيئةٌ سياحيَّةٌ جاذبةٌ، ومَرابِعَ تخبِّئُ في أحْشائها من الذّخائرِ والكنوزِ ما يَستعْصي على الوصفِ، وفوقَ هذا وذاكَ تُعَدُّ مصدرًا لا يَنْضَبُ للطّاقةِ النّظيفةِ بهوائها الذي يُسايِرُ الزّمَنَ حَرَكَةً.
*** أنَّ مُلَثَّمي الصّحراءِ همْ خيرُ "أمّةٍ أُخرِجتْ للنّاسِ"، "غَلَبَ عليهمُ الحياءُ فَتَلَثَّموا"، وتَمَثَّلوا الدّينَ والأخلاقَ فانْمازوا.
ذاكَ هوَ الإطارُ التّقليديّ للنّظرِ، في التّعاطي معَ هذهِ الكياناتِ. وقد يتضمَّنُ بعضَ المعطياتِ الصّحيحةِ، لكنّنا سنضربُ عنهُ صَفْحًا مُنْتَهِجِينَ مَنْهَجًا يُجَلّي المَخاطرَ، ويَكشفُ المآلاتِ؛ أملًا في التّقليلِ منَ آثارِها السَّلبيِّةِ المحتملةِ فينا.
***
دَخَلَتِ النُّذُرُ المائيَّةُ، "للمحيطِ الأطلسيِّ"، منازلَ المواطنينَ، في نواكشوط، دونَ استئذانٍ. فأنتَ تَرى الماءَ يَتَحَدَّرُ منْ أَفْنِيَةِ البيوتِ، وينبُعُ من زوايا الغُرَفِ، ويَتَفَجَّرُ من حجارةِ البلاطِ، فلا يُثيرُ فيكَ استغرابًا؛ لأنّه أضحى جزءًا من المشهدِ اليوميِّ المألوفِ. وهيَ نُذُرٌ تُعَزِّزُ وتُصدِّقُ ما أَطْبَقَ عليهِ أولو الخبرةِ من الجيولوجيّنَ وعلماءِ البحارِ ... من أنّ ارتفاعَ عاصمتِنا عن مستوى سطحِ البحرِ ضئيلٌ جدًّا، وأنَّ التّدانيَ بينهُما يَجعلُ غَرَقَها أمْرًا ليسَ إلّا كَلَمْحِ البصَرِ أو هوَ أقربُ، في زمنٍ لا نوح فيه يَدْعو، ولا سفينة تُنْجي وتَعْصِمُ!
لقدْ أَجبرتْ تلكَ النُّذُرُ طوائفَ غيرَ يسيرةٍ، من ساكنةِ العاصمةِ، على الهجرةِ القسريَّةِ لمساكنِهمْ استجابةً فوريَّةً لرسالةِ البحرِ المُدَوِّيَةِ: "أَنِ امْشُوا، واصْبروا على هجْرِ البيوتِ؛ فإنّي آتٍ، وتلكَ رُسُلي مُؤْذِنَةً بدُنُوِّ قُدومي".
***
و يُسابقُ "بحْرُ الرِّمالِ" –بِسائلِهِ التُّرابِيِّ النَّافِذِ- محيطَ الماءِ في مبدإِ الإغراقِ، وفي استهدافِ "العواصمِ"؛ إذْ يُزَمْجِرُ مُحاصرًا عواصمَ العلمِ والثّقافةِ: (شنقيط، وودان، وتنيكي، وتشيت ...) ويَبْرُزُ نحوَها زاحفًا في كتائبَ منَ الكُثبانِ: دُخْنٍ، وبيضٍ، وحُمْرٍ مختلفٍ ألوانُها، تَتْرى، ويَقْفو آخرُها أولَّها كما تَتَاَلى الأمواجُ، تَغْدو بها رياحُ الصَّبا، وتَروحُ ريحُ بها الدَّبورِ، فتُشَرِّقُ طَوْرًا، وتُغَرِّبُ طورًا آخرَ، يَقودُها التِّيهُ السَّرْمَدِيُّ إلى مَراسي المجهولِ.
ومعَ نُعومةِ تلكَ الرِّمالِ فإنّها تُدمِّرُ، في رحلتها الأبديَّةِ، كلَّ شيءٍ بإذنِ ربِّها، دَفْنًا لهُ في أعماقِها السَّحيقةِ، وتَغْييبًا لهُ في صدرِها الذي يتَّسعُ لكلِّ شيءٍ إلّا للرَّحمةِ. ألمْ تَرَ أنَّ الحِقْدَ أَوْغَرَ صدورَ تِلالِها، فَطَفِقَتْ، تَخْصِفُ مسحوقَها على مهادِنا الحضريِّ، ومدنِنا التَّاريخيَّة (المذكورة آنفًا)، فابْتَلَعَتِ الحَجَرَ والشَّجَرَ، وكادتْ تبتلعُ البَشَرَ الذينَ دُفعوا إلى فراقِ تلكَ الرُّبوعِ العتيقةِ ولسانُ حالِ كلٍّ منهمْ يُرَدِّدُ: "إِنَّكِ أَحَبُّ بِلَادِ اللهِ إِلَيَّ ..." .
***
ويُمارسُ "المحيطُ البشريُّ" –أي الإنسان- الفعلَ الإغراقيَّ – التدميريَّ منْ خلالِ ما يُمكِنُ أنْ نُطلقَ عليهِ: "التَّآكلَ الذَّاتيَّ" نَخْرًا في أصلِ البنيانِ، وخَرْقًا للسَّفينةِ التي تحملُ الجميعَ. وما المصيرُ المنتظرُ حينئذٍ بخافٍ على عامّيٍّ بَلْهَ ذا بصيرةٍ. فحينَ تُداسُ القِيَمُ، ويُتطاوَلُ على الدِّينِ، ويُضرَبُ النّسيجُ الاجتماعيُّ في الصَّميمِ فهلْ ترى لوطَنٍ هذا شَأْنُهُ من باقيَةٍ؟ وعندما تُسَفَّهُ أحلامُ ذَوِي النُّهى، ويُستخفُّ بأصحابِ الضَّمائرِ الحيَّةِ، ويُتَنَكَّرُ للثَّوابتِ والمقدَّساتِ، ويُتَجاوزُ الحِمى يَغْدو مشروعًا التَّساؤُلُ: إلى أينَ نحنُ سائرونَ؟
***
إنَّ "لعنةَ الجغرافيا" -بتعبيرِ محمد حسنين هيكل- التي لمْ تَفْتَأْ تُلاحقُ وطنَنا تُعَدُّ لطيفةً مقارنةً بِــــ"ضَرَّتِها" التي نحنُ -البشرَ- مصدرُها:
"المحيطُ "المائيُّ": يَقتصرُ تأثيرُه على احتمالِ تغييبِ العاصمةِ، وشطْبِها منَ الخريطةِ. وما مُسْتَغْرَبٌ أنْ نُشَيِّدَ عاصمةً بديلةً بمعاييرَ أمنيَّةٍ عاليةِ السَّقفِ.
و"المحيطُ الرَّمليُّ": رُبّما دَفَنَ مُدُنًا كاملةً، وعطَّلَ مَرافقَ حيويَّةً جَمَّةً، وعاثَ في منطقةِ الواحاتِ فسادًا، لكنَّ أرجاءً ما منْ منكِبِنا -كالشَّريطِ الرَّعوي والزِّراعيِّ- ستظلُّ بمنأًى عن زوابعِه وعواصفِه الهوجِ.
أما "المحيط البشري": فقدْ حازَ عصا السَّبْقِ في الإغراق والتدمير، مُتفوِّقًا على غريمَيْهِ بثلاثٍ: أنَّ تدميرَهُ موجَّهٌ، خلافًا لهما، وأنَّهُ يتجاوزُ الأبعادَ والحدودَ الماديَّةَ إلى حصونِ المُثُلِ، ومنظومةِ القِيَمِ، وأنَّهُ شاملٌ وعامٌّ، فلا تَسْلَمُ منْ أذاهُ ذَرَّةٌ منْ ترابِ الوطنِ.
***
لَئِنْ كانَ "ماضينا" مهدَّدًا ببحرِ الرِّمالِ الزاحفِ: طَمْسًا للأثَرِ الحضاريِّ، ومَحْوًا للوجودِ العمرانيِّ، وكانَ "مستقبلُنا" – مُمَثَّلًا بالعاصمةِ- مُهدَّدًا بالغرَقِ في أيَّةِ لحظةٍ منْ لحظاتِ عُتُوِّ المحيطِ الأطلسيِّ وغضبِه – فإنَّ "حاضرَنا" – وهو مشدودٌ، في وجودِهِ الحَرِجِ، إلى ماضيهِ استِلْهامًا، وإلى مستقبلِه تطلُّعًا- مُهدَّدٌ بِبِنْيَةٍ تفْكيريَّةٍ، وسلوكٍ اجتماعيٍّ يُبايِنانِ، في توجُّهٍهما، خَطَّ الزَّمنِ، ويُناقضانِ سيرورةَ الحياةِ وتطوُّرَها على وجهِ الأرضِ. فهلْ مِن مُدَّكِرٍ؟