الاهتمام بالمدن الأثرية ليس ترفًا ثقافيًا، بل هو استثمار متعدد الأبعاد يعود بالنفع على الإنسان والدولة والمجتمع. فهو صونٌ للذاكرة، وتنميةٌ للاقتصاد، وتعزيزٌ للهوية، وجسرٌ يصل الماضي بالحاضر والمستقبل. ومن أبرز فوائده:
أولًا: حفظ الهوية والذاكرة الجماعية
فالمدن الأثرية تمثل سجلًا حيًّا لتاريخ الأمم وتجاربها الحضارية، وحمايتها تعني صون الذاكرة الجماعية وتعزيز الشعور بالانتماء والاعتزاز بالجذور.
ثانيًا: دعم الاقتصاد والسياحة الثقافية
إذ تُعدّ المدن الأثرية رافدًا مهمًا للسياحة الثقافية، بما توفره من فرص عمل، وتنشيط للحرف التقليدية، وتحريك لقطاعات النقل والخدمات والإيواء.
ثالثًا: التنمية المحلية المستدامة
إعادة تأهيل المدن التاريخية تخلق ديناميكية تنموية تحافظ على الخصوصية العمرانية، وتحدّ من الهجرة الداخلية، مع تحسين ظروف العيش للسكان المحليين.
رابعًا: تعزيز الصورة الدولية للبلد
فالاهتمام بالتراث العمراني يعكس نضج الدولة ووعيها الحضاري، ويعزز حضورها الثقافي في المحافل الدولية، ويقوّي فرص الشراكات الثقافية والاقتصادية.
خامسًا: نقل المعرفة بين الأجيال
إذ تشكّل المدن الأثرية فضاءً تعليميًا مفتوحًا، يتيح للأجيال الجديدة فهم تاريخها عبر المعايشة المباشرة، لا من خلال الكتب وحدها.
سادسًا: حماية التنوع الثقافي
فصون المدن التاريخية يعني الحفاظ على أنماط معمارية، ولهجات، وعادات، وأساليب عيش تشكّل ثراءً إنسانيًا فريدًا.
سابعًا: الإلهام الثقافي والإبداعي
فالمدن العتيقة كانت ولا تزال مصدر إلهام للأدباء والفنانين والمعماريين، ومجالًا خصبًا لإنتاج ثقافي معاصر متجذّر في الأصالة.
في هذا السياق، تنطلق النسخة الجديدة من مهرجان مدائن التراث في وادان، بوصفها عودة هادئة إلى مدينة تعلّمت، منذ قرون، كيف تقيم في الذاكرة، وكيف ترفض النسيان.
لا يأتي الزائر إلى وادان ليشاهد الماضي، بل ليمشي فيه، ويعيشه من جديد، ويكتشف أن التراث، حين يُحسن الإصغاء إليه، يتحوّل إلى حياة كاملة.
أكثر من ثمانية قرون مرّت على تأسيس هذه المدينة، ومع ذلك لا تزال حاضرة، تُذكر كما تُذكر الحكمة القديمة، ويُشار إليها بوصفها إحدى العلامات المضيئة في قلب الصحراء.
وقد جاء تصنيفها ضمن قائمة التراث الإنساني اعترافًا دوليًا بقيمتها العمرانية، وإقرارًا بأن لهذه المدينة روحًا تستحق الحماية، وأن حجارتها تحمل معنى يتجاوز حدود الزمن.
ومن هنا، يجيء مهرجان مدائن التراث ليعيد تسليط الضوء على تراثها المادي وغير المادي، وعلى مدن شقيقة تشترك معها في الذاكرة والمصير.
غير أن سرّ وادان لا يكمن في قِدمها وحده، بل في لحظة ميلادها الأولى.
فقد وُلدت من الطريق، حين حطّ الحُجّاج رحالهم في هذه الرقعة من الصحراء، فحوّلوا التوقّف إلى إقامة، والعبور إلى تأسيس.
أربعة من الحُجّاج رسموا ملامح البداية: الحاج علي، والحاج يعقوب، والحاج عثمان، والحاج عبد الرحمن الصائم.
جاؤوا محمّلين بالعلم، وبذاكرة رحلة حجّ قاسية علّمتهم الصبر، وبإيمان عميق بفكرة الجماعة والوحدة.
من تلك النواة الأولى، بدأت وادان تنمو بهدوء الواثق. كان المسجد أول نبض للحياة، ومنه تشكّلت المدينة حول معنى العبادة والعلم.
وفي شارع العلماء، أربعون منزلًا متجاورًا، في كل واحد منها عالم، وكأن المعرفة كانت شرط السكن والانتماء. ثم ارتفع سور المدينة، لا بوصفه جدارًا فحسب، بل تعبيرًا عن وعيٍ جماعي بأن الأمن أساس العمران، وأن الاستقرار شرط لازدهار الروح قبل المكان.
ومع مرور الزمن، صارت وادان مدينة علم بامتياز، وحاضنة لحراك معرفي عميق، ومركز إشعاع في قلب الصحراء. وقد جعلها موقعها الجغرافي محطة للقوافل، فغدت ملتقى للتجارة والفكر، ومكانًا تتقاطع فيه السلع مع الأفكار، والأسفار مع الكتب.
سحر وادان لا يُقاس، والانغماس في تاريخها يغريك بالبقاء أكثر مما يغريك بالرحيل.
مدينة تشعر، وأنت تمشي في أزقتها، أنك تنتمي إليها، حتى وإن جئتها عابرًا.
ربما لأن مؤسّسيها لم يبنوا مجتمعًا مغلقًا، بل فضاءً مفتوحًا على العلم والضيافة والتسامح. وربما لأن المدينة، رغم قسوة الصحراء، كُتب لها أن تكون واديًا للمعرفة، وموئلًا للأمن، ومساحةً للعطاء.
من هذا العمق، يجيء مهرجان مدائن التراث ليحتفي بالتراث، لا بوصفه ماضيًا منتهيًا، بل باعتباره مسؤولية حيّة، ورسالة متجددة.
فالمدن لا تموت حين تُهجر، بل حين تُنسى.
وفي وادان، لا يكون المهرجان خاتمة الحكاية، بل شرارتها المتجددة.

.gif)
.gif)













.png)