يُتيح لنا التأمّل في المدونات التاريخية التي ظهرت في المجال الشنقيطي أن نتعرّف على طرائق المؤرخين ومسالكهم في سرد الأحداث وبناء الذاكرة. فقد انتمى المؤلفون إلى حواضر متعددة وإلى بيئات اجتماعية وثقافية مختلفة، مما جعل الكتابة التاريخية تنتقل من إقليم إلى آخر، وتتلوّن بأساليب متنوعة وأغراض متباينة.
ولم يكن المؤرخون جميعًا ينطلقون من هاجس واحد؛ فمنهم من قصد إلى تثبيت ذاكرة محلية، يحفظ بها ما تناقلته الجماعات شفاهاً من وقائع وحوادث وأسماء، فيحوّلها من أرشيف الذاكرة الشعبية إلى سجل مكتوب تحرسه معايير الثقافة العالِمة. ومنهم من أراد أوسع من ذلك: أن يجعل التاريخ المحلي جزءًا من تاريخ أمة أوسع، أو من سردية كبرى تمتد من المجال المغاربي إلى المجال الصحراوي الساحلي.
ولعل المدخل الأساس إلى هذا المسعى هو التأليف في طبقات العلماء. فحين ألّف أحمد بابا التنبكتي (توفي 1036هـ / 1627م) كتابيه "نيل الابتهاج" و"كفاية المحتاج"، ومن بعده الطالب محمد بن أبي بكر الصديق البرتلي الولاتي (توفي 23 ذي الحجة 1219هـ/ 25 مارس 1805م) لم يكونا يكتفيان برصد أسماء الرجال، بل سعىا إلى إدماج علماء الفضاء الساحلي الصحراوي في خريطة المعرفة الإسلامية العامة، رافضين أن تبقى هذه البلاد النائية على هامش العالم الإسلامي. ومن بعدهما سار عدد من أعلام المنطقة على النهج ذاته: منهم من تابع بناء التاريخ العام قبل الانتقال إلى التاريخ المحلي، ومنهم من ابتدأ من التاريخ المحلي مباشرة، مكتفيًا بضبط تواريخ الحوادث الكبرى والوفيات والوقائع القبلية، وتسجيل ما رآه مؤثرًا على حياة الناس من جدب وخصب ومرض وحروب.
حين يُسمّي المجتمع الزمن: من الذاكرة الحيّة إلى سلطة التقويم
لم يكن أسلوب الطالب أحمد بن طوير الجنة الحاجي الوداني (توفي 2 رمضان 1265هـ / 23 يوليو 1849م) في التدوين التاريخي، ولا غيره من مؤلفي الحوليات الموريتانية، تدوينًا لحظيًّا يلاحق الحدث في زمن وقوعه، بقدر ما كان فعلَ ترجمةٍ متأخرة، تُنقل فيها الرواية الشفوية من مجال التداول الاجتماعي إلى أفق التقويم التاريخي المكتوب. ومن هذا الانتقال تولّد ذلك التوتر البنيوي بين "الزمن المعيش" كما تحفظه الجماعة وتستحضره، و"زمن المؤرِّخ" كما يُقاس ويُضبط داخل نظام التأريخ الهجري. فالسنة، في الوعي الجماعي، لا تُعرّف بعدد أيامها ولا بأشهرها، بل بالحادثة التي وسمتها وطبعت الذاكرة بها، بينما تُختزل، في خطاب المؤرخ، إلى رقمٍ زمنيٍّ يُدرج ضمن تسلسل تقويمي صارم. ومن هنا ينشأ ذلك التفاوت الدقيق، وأحيانًا اللافت، في تأريخ الواقعة الواحدة بين مؤلف وآخر، لا بوصفه خللًا منهجيًا، بل بوصفه أثرًا لاختلاف أنماط تمثّل الزمن نفسه.
ويكشف هذا التباين، في عمقه، عن كيفية حضور الحدث في الوعي الاجتماعي الموريتاني، وعن الآليات التي تتشكّل بها الذاكرة في مجال كانت فيه الرواية والإنشاد والتناقل الشفهي أكثر رسوخًا من السجل المكتوب، وأكثر قدرة على تثبيت المعنى من التاريخ بوصفه سردًا مؤسسيًا. فالزمن هنا لا يُقاس، بل يُعاش؛ ولا يُعدّ، بل يُتذكَّر.
وإذا ما أُمعن النظر في مضامين هذه التواريخ المحلية أو الحوليات ومن ضمنها تاريخ ابن طوير الجنة، تبيّن أنها تعكس بوضوح البنية الاجتماعية والرمزية لساكنة الصحراء الشنقيطية. فهي تاريخ يكتب من أعلى هرم الظهور الاجتماعي: أمراء، وفرسان، وعلماء، وصلحاء، وسادة الحواضر والبوادي؛ أولئك الذين امتلكوا سلطة السيف، أو شرعية العلم، أو رمزية النسب. أما الجماعات الأقل حضورًا في فضاء القوة والتمثيل فإنها لا تطلّ إلا لمامًا، في إشارات خاطفة، أو ظلال عابرة، لكنها، مع ذلك، تتيح للقارئ المتنبّه أن يستشفّ طبقات صامتة من الذاكرة التاريخية، لم تُكتب صراحة، لكنها تسكن ما بين السطور.
وليس إدراك هذه الخصائص غايةً معرفية قائمة بذاتها، بل هو مدخل لا غنى عنه لكل قراءة نقدية واعية للتاريخ المحلي، ولكل محاولة جادّة لإعادة بناء تاريخ هذه البلاد على أسس منهجية متينة. ومن هنا تنبع ضرورة العودة إلى التواريخ المحلية، منظومها ومنثورها، لا من أجل ترديد ما قاله المؤرخون، بل لاستنطاق ما سكتوا عنه، وفهم ما ألمحوا إليه دون تصريح، وتتبع الكيفيات التي صاغوا بها المعنى، ووزّعوا بها الضوء والظل داخل سردياتهم. فالتاريخ، في هذا الأفق، لا يُقرأ بوصفه ما كُتب، بل بوصفه أيضًا ما اختير أن يُكتب، وما تُرك عمدًا في منطقة الصمت.
إن هذا المدخل نفسه هو الذي يقودنا إلى تاريخ ابن طوير الجنة، ذلك النص الذي لا يمكن فهم قيمته إلا إذا أدركنا السياق الذي نشأ فيه فن التدوين التاريخي في هذه البلاد، وطبيعة مصادره، وحدود رؤيته، وما يميّزه من جمع للذاكرة الشفهية وتأمل في مصائر القبائل والأحلاف، وتسجيل للحوادث على نسق متتابع يزاوج بين بساطة العبارة ودقة الإشارة.
فابن طوير الجنة يكتب في بيئة تتشارك مع غيرها في طرائق التدوين وأساليبه، لكنها تحمل خصوصيتها في اختيار الأحداث وتحديد من يستحق الذكر وكيفية ترتيب الوقائع. ومن خلال قراءة تاريخه نستطيع أن نطلّ على مرحلة دقيقة من تاريخ المجتمع والعلاقات السياسية والعسكرية والاجتماعية في المجال الشنقيطي الصحراوي النهري.
وعليه، فإن المرور بهذا التمهيد ليس استطرادًا، بل هو المدخل الطبيعي لفهم تاريخ ابن طوير الجنة واستيعاب مكانته في سلسلة المؤرخين الذين صاغوا الذاكرة التاريخية في بلاد شنقيط.
أعوام تُعرف بالوقائع: دلالة تسمية الزمن بالحادثة
يُعدّ تاريخ ابن طوير الجنة من أهم المصنفات المحلية التي وصلتنا عن المجال الشنقيطي؛ لأنه لا يقدّم مجرد سرد للحوادث، بل يعكس بنية الوعي التاريخي لدى المجتمع الشنقيطي بل والصحراوي الساحلي عمومًا، ويُظهر كيف كانت المجموعات ومن فيها من العلماء تسجّل الأحداث وتؤرّخ للوقائع وتربطها بحركة المجتمع والزمن. إننا أمام سجل يصوغ الماضي من داخل التجربة لا من خارجها، بعين من عاش في الصحراء الشنقيطية وسمع الروايات وحضر بعض الوقائع أو عاصر رجالها أو تلقّى أخبارها من الثقات. لذلك، فإن قيمة هذا التاريخ ليست في تواريخ السنوات وحدها، بل في الروح التي تحكم اختيار الأحداث وطريقة ذكرها، وفي ما يكشفه من نظام داخلي لإنتاج المعنى في مجتمع يقوم على الرعي والحرب والحفظ الشفهي.
ويبتدئ المؤلف بالإشارة إلى نشأة الحواضر الكبرى في بلاد شنقيط، مثل تمبكتو وأروان وشنقيط وودان، وهذه الإشارات ليست عابرة؛ لأنها تمثل نقاطًا أساسية في خريطة التدين والسلطة والتجارة. فتمبكتو لم تظهر فجأة، بل نشأت أولًا كواحة على خيط من الماء، ثم صارت محطة للقوافل النازلة من سجلماسة والمتجهة نحو بلاد السودان، ثم ما لبثت أن صارت مركزًا علميًا ودار فتيا ومدرسة لحفظ القرآن وتدريس العلوم. وكذلك أروان، التي تبدو في ظاهرها بلدة صغيرة منعزلة، لكنها كانت قلبًا نابضًا لقوافل الملح، ومنها ينحدر جزء من الثقل الروحي لبلاد أزواد. أما ودان وشنقيط، فهما مثال على انتقال القبائل من حياة الترحال الدائم إلى حياة تتوازن بين الخيمة والمدينة، بين المحظرة والمرعى، بين الإقامة والتنقل.
ويورد المؤلف أحداثًا سياسية كبرى، من أبرزها تولي المولى إسماعيل الحكم بالمغرب. ولا يبدو في الظاهر أن لهذا الحدث أثرًا مباشرًا على بلاد شنقيط، لكن الواقع التاريخي يشهد أن السلطنة العلوية لعبت دورًا مهمًا في توجيه بعض التحالفات، كما كانت مرجعًا دينيًا يمكن الاستناد إليه لإضفاء الشرعية على السلطة أو الإمارة. فالعلاقة بين المغرب والشناقطة لم تكن علاقة تبعية سياسية، بل كانت أقرب إلى علاقة رمزية وروحية، تُستحضر عند الحاجة لتثبيت مكانة شيخ أو إمام أو أمير.
غير أن الوجه الأكثر حضورًا في تاريخ ابن طوير الجنة هو الوقائع القبلية والمعارك والغزوات. فبلاد شنقيط، في هذا الزمن، لم تكن فضاءً ساكنًا، بل كانت مجالًا لاحتكاك دائم بين القوى الاجتماعية، يتغير فيه ميزان السلطة بتغير المطر والمراعي والقوافل والطرق التجارية. وتأتي تسمية السنوات بأسماء المعارك لتدل على أن الحرب ليست حادثًا عارضًا، بل معيارًا زمنيًا يسم المجتمع به أيامه.
وفي مقابل الوقائع العسكرية، يسجّل التاريخ وفيات العلماء والأعيان، وهذه السجلات ليست تكريمًا للموتى فحسب، بل هي إعلان عن سلسلة الإسناد العلمي التي تنتقل من جيل إلى جيل، وضبط لمراكز الإشعاع الفكري ومسارات انتقال العلم من الحجاز والمغرب إلى تكانت وآدرار والحوض وتيرس والضفة والقبلة.
كما يُولي المؤلف عناية كبيرة لسنوات القحط والمجاعة والوباء، لما لها من أثر بالغ في حركة المجتمع، مبرزًا مرونة المجتمع وقدرته على التكيّف، وعلاقات التضامن بين مكوناته.
وهناك إشارة من المؤرخ ابن طوير الجنة إلى "عام الدراريع في آدرار"، والدراريع ليست مجرد زي شاع في سنة من السنين، بل هي علامة دالة على حضور اللباس في تشكيل الذاكرة التاريخية والرمزية للمجتمع الشنقيطي. فالدراريع، بما هي رداء فضفاض ينساب على الجسد، لم تكن لباسًا وظيفيًا فحسب، بل كانت رمزًا للوقار والرجولة ومكانة الجماعة في محيطها الصحراوي. إن تسجيل المؤرخ لهذا الزي داخل سياق الحوادث يكشف عن أن التاريخ المحلي لا يختزن فقط أخبار الحروب والوفيات والصلح والأوبئة والمجاعات والقحط، بل يحفظ أيضًا ملامح الذوق الاجتماعي وإيقاع الحياة اليومية، ويقرّر ما ينبغي أن يُعد جزءًا من الهوية المعيشة.
وهنالك ميل واضح لدى ابن طوير الجنة إلى استبدال لفظ "شين" بـ"زين" عند ذكر أهل امحمد شين -أمراء إدوعيش- وليس ذلك مجرد تحريف صوتي أو تلطيف عفوي، بل هو تعبير عميق عن نزعة المؤلف إلى "التفاؤل اللغوي" ورغبته في حفظ نمط من المعاني في الذاكرة المتداولة. فالكلمة في الثقافة الشفهية ليست أداة إخبار فحسب، بل هي حامل لمعانٍ أخلاقية، ومن ثم فإن تعديل اللفظ يصبح تحويلًا للمعنى من حقل دلالي إلى آخر، تغليبًا للخير والإصلاح.
وتأتي في نهاية الكتاب إشارة ثمينة إلى رحلة المؤلف نفسه إلى الحج، وكيف عاقته الظروف فتأخر سنة كاملة في فاس بالمغرب ينتظر قافلة الحجاز. إن هذه الإشارة تُعطي الكتاب بعدًا شخصيًا نادرًا، فهي تجعل المؤرخ جزءًا من الزمن الذي يكتبه، وتُظهر أن التدوين ليس نقلًا محايدًا، بل هو مجال يعيش فيه المؤلف ومجاله وحاجاته وأحواله. ثم ينتهي التاريخ بذكر وفاة المؤلف نفسه، التي سجلها بعض طلابه في نهاية التاريخ، فيتحول النص إلى شاهد على جيل كامل، جيل كان في مفترق بين عالم صحراء الملثمين القديمة وعالم التحولات السياسية القادمة مع القرن التاسع عشر.
الخاتمة
يتبيّن من خلال هذا العرض أن تاريخ ابن طوير الجنة ليس مجرد تجميع للحوادث ولا سردًا محايدًا للوقائع، بل هو مرآة لوعي جماعي تشكّل في بلاد شنقيط عبر قرون من الترحال والعلم والتنافس والتحالف. فطريقة المؤلف في تسمية الأعوام بالوقائع، وفي ربط الأحداث بالذاكرة الشفهية، وفي تتبع وفيات العلماء وأخبار منابر العلم والمحاظر، تكشف عن بنية عميقة لفهم الزمن تختلف عن تصور ابن المدينة أو مؤرخ البلاط. فالزمن هنا ليس خطًا مستقيمًا متتابعًا، بل هو نبض مجتمع يختزن الحادثة في الاسم، ويجعل من الذكرى رمزًا، ومن القصة إطارًا لمعنى أكبر من حدود المناسبة التي وقعت فيها.
وبهذا المعنى، فإن هذا التاريخ يضعنا أمام مجتمع حيّ، تتحرك فيه السلطة بين السيف والكتاب، وتنتقل فيه القيادة بين بيت وآخر، وتتنافس فيه أكثر من جهة على الشرعية الرمزية أكثر مما تتنافس على الأرض وحدودها. كما يكشف لنا عن الدور المحوري للبوادي والحواضر الصغيرة في صناعة التاريخ، وعن كيفية نشوء مراكز العمران والمحاظر باعتبارها أوعية للعلم والمعرفة في فضاء يبدو للوهلة الأولى قاسيًا وممتنعًا.
وعند قراءة هذا النص اليوم، بعد ما يزيد على 177 سنة من وفاة مؤلفه، ندرك أننا لا نقرأ وثيقة ماضية فحسب، بل نقرأ لغة مجتمع يفكّر بنفسه، ويرسم صورته الخاصة للعالم، والصحراء، والسودان الغربي. ومن هنا تتجاوز قيمة الكتاب حدود الخبر التاريخي، لتصبح قيمة دلالية، تستحق أن يُعاد النظر إليها بوصفها مدارًا لأسئلة تتعلق بالهوية، والسلطة، والذاكرة، والروايات المتوارثة.
وبذلك يمكن القول إن تاريخ ابن طوير الجنة لا يمثل مجرد فصل من فصول كتابة تاريخ هذه البلاد، بل يمثل حجر أساس في مشروع أوسع يهدف إلى استعادة الذاكرة الوطنية وترميمها وإعادة قراءتها بعيدًا عن إسقاطات المؤرخين اللاحقين، سواء أتوا من داخل المجال أو من خارجه. فهو نص يستدعي الشرح والتحقيق والتحليل المقارن، ويفتح أبوابًا واسعة لقراءة التكوين السياسي والاجتماعي والديني لبلاد شنقيط عبر القرون. فهو تاريخ كتبه ابن الصحراء الشنقيطية للصحراء الشنقيطية، لكنه اليوم ملك للبحث والعلم والوعي.
نص منشور في مجلة الثقافة



.gif)
.gif)













.png)