على مدار الساعة

حل حزب اتحاد القوى الديمقراطية – عهد جديد (UFD/EN) عام 2000: فصل من توتر العلاقة بين النظام والمعارضة

20 ديسمبر, 2025 - 14:44
محمد سالم ولد لكبار

مقدمة:

في 28 أكتوبر 2000، أقدمت الحكومة الموريتانية على حلّ أحد أبرز أحزاب المعارضة حينها، حزب اتحاد القوى الديمقراطية – عهد جديد (UFD/EN)، الذي كان يقوده السياسي المخضرم أحمد ولد داداه، ومثّل هذا القرار عند صدوره زلزالا سياسيا وقانونيا في البلاد، كشف عن عمق التناقضات التي كانت تحكم العلاقة بين نظام ولد الطايع وقوى المعارضة، في مرحلة كانت السلطة تحاول فيها تثبيت دعائم انتقال ديمقراطي وواجهة تعددية لم تترسخ بعد في الواقع المؤسسي.

 

ومع مرور ربع قرن على هذا الحدث المفصلي، تبرز الحاجة الملحة إلى إعادة قراءته في ضوء التحولات السياسية والمؤسسية التي شهدتها البلاد، وتحليل أبعاده المختلفة ضمن ثلاثية السياسة والقانون والحقوق، باعتباره نموذجا تاريخيا لفهم كيفية تعامل الأنظمة مع الخصومة السياسية في ظل ضعف الضمانات الدستورية والمؤسساتية.

 

أولا: السياق السياسي: بدايات التعددية وقلق النظام

جاء تأسيس اتحاد القوى الديمقراطية UFD/EN يوم 2 أكتوبر 1991، في سياق انفتاح نسبي أعقب التصويت على دستور 20 يوليو 1991، الذي أقر التعددية الحزبية بعد عقود من الحزب الواحد والحكم العسكري، وشكل الحزب، الذي ضم شخصيات بارزة من الطيف المعارض، واجهة مؤسسية جديدة للمعارضة السياسية في البلاد، ورفع شعارات ذات صبغة وطنية وديمقراطية وحقوقية.

 

تمكن الحزب خلال عقد التسعينيات من ترسيخ حضوره الميداني، عبر مشاركته في الانتخابات الرئاسية والتشريعية والبلدية، وتحالفه مع أحزاب أخرى، فضلاً عن نشاطه الإعلامي ومشاركته في المنتديات الحقوقية الوطنية والدولية، وترشح زعيمه أحمد ولد داداه في الانتخابات الرئاسية عام 1992 واحتل المرتبة الثانية، ما أعطى لحزبه وزنا سياسيا متزايدا داخل المشهد الوطني، لكن مع مطلع الألفية، وفي أفق الانتخابات البلدية والتشريعية المقررة لسنة 2001، بدا أن الحزب في طريقه إلى توسيع نفوذه على مستوى المجالس المنتخبة، خاصة في المناطق الحضرية ذات الطابع المعارض تقليدياً، ما أثار قلق النظام من تنامي تأثيره.

 

ثانيا: قرار الحل: بين الشرعية الشكلية والمنهج الإقصائي

في 28 أكتوبر 2000، صدر المرسوم رقم: 2000/116.PM/MIPT  عن الوزير الأول، بناءً على اقتراح من وزير الداخلية واللامركزية، يقضي بحل حزب اتحاد القوى الديمقراطية UFD/EN، استنادا إلى المادة: 11 من قانون الأحزاب السياسية رقم: 91 - 024 الصادر بتاريخ: 25 يوليو 1991، المعدل، والتي تجيز حل الحزب إذا ارتكب مخالفات خطيرة تمس وحدة الدولة أو أمنها، وأرفقت الحكومة قرارها باتهامات ضد الحزب تتعلق بـ"التحريض على الكراهية والمس بوحدة الوطن"، دون نشر الأدلة المادية بشكل علني، بل اكتفت بإشارات غامضة إلى أنشطة الحزب ومواقف قياداته، كما تم الحجز الإداري على ممتلكات الحزب، بما في ذلك مقره المركزي ومعداته.

 

رأت المعارضة أن ما جرى كان اجتثاثاً سياسياً مغطى بشرعية قانونية شكلية، واعتبرت أن غياب التدرج في الإجراءات - كالتنبيه أو الإنذار أو التعليق المؤقت - يكشف النية المبيتة لإقصاء الحزب من المشهد السياسي.

 

ثالثا: الرد الداخلي: صدمة سياسية ومعركة كرامة

أصدر الحزب فورا بيانا شديد اللهجة، ندّد فيه بالقرار، معتبراً إياه "انقلاباً على العملية الديمقراطية الوليدة"، و"محاولة لتكميم الأفواه في مواجهة الفشل الحكومي"، وردّ الشارع كان سريعاً، إذ خرجت مظاهرات في نواكشوط وبعض المدن الداخلية، قمعتها الأجهزة الأمنية بالقوة، واعتُقل عدد من قيادات الحزب، بينهم الأمين العام أحمد ولد داداه، الذي كان حينها عائداً من رحلة خارجية، وأفرج عنه لاحقاً تحت ضغط داخلي وخارجي.

 

ومثل حل الحزب لحظة كسر للثقة بين النظام والمجتمع السياسي، خاصة في أوساط الشباب والنخب التي كانت تراهن على بناء نموذج سياسي تعددي ومستقر.

 

رابعا: القضاء في المحك: شرعنة القرار أم إخفاق دستوري؟

طعن الحزب في القرار أمام الغرفة الإدارية بالمحكمة العليا، التي أصدرت في 14 يناير 2001 قرارها برفض الطعن، معتبرة أن قرار الحكومة "مؤسس قانونا" ولم يخالف النصوص المعمول بها، لكن قرار المحكمة العليا قوبل بتشكيك واسع، ليس فقط من المعارضة، بل حتى من بعض رجال القانون، الذين رأوا أن المحكمة لم تُعمّق المراجعة القضائية، وتجنّبت الخوض في مدى احترام القرار لمبدأ التناسب ومقتضيات العدالة الإجرائية، وهو ما عزز الشعور بأن القضاء آنذاك لم يكن مستقلاً بما يكفي ليشكّل سلطة موازنة.

 

خامسا: على الساحة الإفريقية: الانتصاف الحقوقي المؤجل

لم يكن للمعارضة سوى أن تتجه إلى اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، حيث قدمت منظمات حقوقية، منها "إنترايتس" و"معهد حقوق الإنسان والتنمية في إفريقيا"، شكوى باسم الحزب تتهم فيها الدولة بانتهاك الميثاق الإفريقي، خاصة المواد المتعلقة بـحرية التعبير، وحرية التنظيم، والحق في المشاركة السياسية، وبعد سنوات من المداولات، اعتبرت اللجنة أن حل الحزب يمثل انتهاكا جسيما لحقوق الإنسان، وطلبت من موريتانيا اتخاذ الإجراءات اللازمة لجبر الضرر، رغم أن الدولة لم تستجب بشكل مباشر، إلا أن القرار كان إدانة معنوية قوية، تم توظيفها لاحقاً في النقاشات الحقوقية حول مستقبل التعددية في البلاد.

 

سادسا: في ميزان الدولة: السيادة أم الرغبة في التحكم؟

دافعت الحكومة عن قرارها، معتبرة أن الحزب تجاوز الخطوط الحمراء للمعارضة المسؤولة، وأنها لجأت إلى الحل كإجراء قانوني بعد استنفاد الوسائل الأخرى، واستندت في ذلك إلى الدستور وقانون الأحزاب، غير أن خصوم الحكومة أكدوا أن الهدف لم يكن الحفاظ على السلم الأهلي، بل منع صعود معارضة حقيقية قبيل استحقاقات 2001، وهو ما أثبتته لاحقاً تحركات مشابهة طالت أحزاباً وصحفاً ومؤسسات مجتمع مدني.

 

سابعا: ما بعد الحل: من الرماد وُلد التكتل

رغم الضربة القاسية، لم يختف الحزب كمدرسة سياسية. ففي 2002، تأسس حزب تكتل القوى الديمقراطية بقيادة محمد محمود ولد لمات الذي تنازل عن القيادة لأحمد ولد داداه، الذي استعاد قسماً كبيراً من جمهور وأنصار الحزب المنحل، وواصل نضاله السياسي، وكان له دور بارز في تنشيط الساحة السياسية، والمشاركة في الانتخابات الرئاسية والبلدية، وفي الحوارات الوطنية لاحقاً، وبذلك أظهر قادة الحزب المنحل قدرة على إعادة التموضع السياسي، رغم التضييق والرقابة، ما ساهم في الحفاظ على الحد الأدنى من التعددية السياسية.

 

ثامنا: دروس التجربة: بين القانون والسياسة

شكّل حل حزب اتحاد القوى الديمقراطية UFD/EN نموذجا لدراسة حدود استعمال القانون في المجال السياسي، وضرورة التمييز بين الضبط المشروع للحياة الحزبية، وبين الإقصاء التعسفي المغلف بالشرعية الشكلية.

 

وتكشف التجربة عن الحاجة إلى:

- إصلاح قانون الأحزاب السياسية، وخاصة شروط الحل.

- وضع قضاء إداري مستقل وفعّال يمكنه حماية الحقوق السياسية.

- تعزيز ثقافة الحوار بدل الإقصاء في العلاقة بين النظام والمعارضة.

 

ورغم تبني بعض الإصلاحات السياسية خلال العقدين الماضيين، لا تزال المعوقات البنيوية للديمقراطية قائمة، في مقدمتها استمرار هيمنة السلطة التنفيذية، وضعف استقلال القضاء، وهشاشة الضمانات الدستورية لحرية التنظيم، ومع الحديث المتجدد عن إصلاح النظام السياسي، يبدو أن مراجعة أحداث مثل حل حزب UFD/EN ضرورية لبناء ذاكرة سياسية جماعية تتجنب أخطاء الماضي وتُحصّن المستقبل.

 

خاتمة: التعددية ليست منّة.. بل حق أصيل

إن ما جرى في أكتوبر 2000 شكل علامة فارقة في تطور الدولة الموريتانية الحديثة، ودليل على أن الديمقراطية لا تترسخ فقط بالنصوص، بل بثقافة احترام الآخر، وضمان الحق في التعبير والتنظيم والمعارضة.

 

وإذا كانت موريتانيا قد تجاوزت من الناحية الشكلية تلك المرحلة، فإن روح القرار لا تزال حية في الذاكرة السياسية، تُذكرنا بأن الاستقرار لا يكون إلا بالعدل، والتعايش لا يتحقق إلا عبر المؤسسات لا عبر الإقصاء.