مدخل :
ينتمي الأستاذ الرشيد ولد صالح لجيل من المعلمين والأساتذة، مزجوا بين التحصيل المحظري التقليدي والمدرسي الحديث.
ويبدو أن توجهات الرجل الفكرية ساهمت في تحيين تلك الحمولة الثقافية التي اصطحبها معه من مضارب الأهل وبيئة العلم التي غرسها وتعهدها جده العلامة محمد صالح ولد عبد الوهاب.
فبين محظرة الأهل مرورا بمعهد بوتلميت والمدرسة العليا للتعليم والوكالة الموريتانية للأنباء وخلايا التربية الاديولوجية والمراكز الثقافية في نواكشوط الناشئة.. بين كل هذه المطارح نشأت الرؤية النقدية والأدبية عند الرشيد ..
لم ينشر الرشيد شعرا ولا نثرا قصصيا فيما وصلنا، ولكنه حاز زمام الريادة في الممارسة النقدية الموريتانية، ولولا أن الحكومات آثرت خدماته في مجالات الإدارة والتوزير، لكان اليوم أحد أهم وأكبر الأسماء المذكورة في سماء الأدب عندنا .
فالرشيد كاتب رصين، وباحث أمين، ومثقف متوثب، وهي صفات لا يمكن لمن لا يحملها أن يمارس النقد الأدبي في بيئة تكفر به كفرها بتدريسه.
لكن الرشيد كان ناقدا جسورا، ومجادلا طويل النفس، وهو ما جعله يملك زمام معاركه الأدبية، فكان يحترم خصومه من الأدباء والنقاد، وكان يبتعد بمعجمه الحجاجي عن الأعراض والإساءة والتجريح، كما كان يعترف لمجادله بما أصاب فيه، وفي الآن نفسه كان يبسط رأيه بلغة أنيقة، تشد القارئ قبل أن تشده غزارة المعلومات وطرافة التشبيهات .
الحلقة والسلسلة :
أطل الأستاذ الرشيد على دنيا الأدب والنقد من خلال جريدة (الشعب) الموريتانية، وذلك في نهاية سبعينات القرن المنصرم.
كانت جريدة الشعب يومها المنبر العربي الوحيد في البلد ( نتحدث عن استمراريتها وكونها صحيفة يومية تابعة للدولة، على عكس بعض المناشير غير المنتظمة والتي لم تكن تملك من الجدية والحضور ما تملكه هي)، وكانت فضاء ينشر من خلاله خيرة كتاب البلد ومثقفوه مقالاتهم في شتى المجالات، الثقافية والفكرية والاجتماعية والسياسية ..
صدر العدد الأول من جريدة الشعب منتصف العام 1975 ولم يمض على ظهورها أكثر من سنتين حتى أصبحت جريدة رائدة في مجال الثقافة والأدب، فانبرى أدباء البلد وشعراؤه ومثقفوه في تغذيتها بالمقالات والكتابات الجادة، وأضحت حلبة تنافس بين هؤلاء، وقد ساعدها في ذلك كونها حظيت بمديرين ورؤساء تحرير ينتمون لنفس البيئة الثقافية والعلمية، ولهم وعي بضرورة استقطاب الأقلام المتميزة.
في هذا المحيط، وهذه البيئة أطل الأستاذ الرشيد ولد صالح على القراء ذات صباح من صباحات فبراير، وتحديدا يوم 14 من فبراير عام 1979 وذلك من خلال الحلقة الأولى من سلسلة : ( الأدب العربي في موريتانيا – الحلقة المفقودة) .
كان الرشيد مسكونا بسؤال نقدي وطني محير، وهو : ( هل لنا أدب ضمن مجموع أدبنا العربي؟ وهل لهذا الأدب خصائصه ومميزاته، بحيث يشكل حلقة متميزة، تماثل بجدارة أي حلقة أخرى من سلسلة آدابنا العربية؟ ).
ولقد شكل هذا السؤال المتناسل مدخلا ولج من خلاله الرشيد إلى نقاش القضايا النقدية المطروحة آنذاك على الساحة، والتي من أبرزها :
- قضية الريادة الشعرية في موريتانيا
- قضية تقليد القصيدة الموريتانية لنظيرتها الجاهلية
- قضية جهل المشارقة للشعر الموريتاني وغمطهم حق القصيدة الموريتانية في البروز والتنويه.
ففي قضية الريادة انتقد الرشيد الآراء التي تقول بأولية ولد رازكة في الشعر الموريتاني .. يقول : " إن الباحثين يقولون إن أول ما عرف من الأدب الموريتاني في مجال الشعر بالذات، بيتان معروفان لابن رازكة، والمتأمل في ذينك البيتين يدرك أنهما لا يمكن إلا أن يكونا داخلين في سلسلة تجارب أدبية سبقتهما، فالمألوف أن يتطور الشيء من الأسفل إلى الأعلى، ومن الأسوأ إلى الأحسن، وليس من المعهود و لا من المألوف أن تنشأ التجربة ناضجة، يانعة، بل لابد أن تمر بالتطورات التي هي سنة الحياة في كل شيء.
فنحن إذا نميل إلى أن شعر بن رازكة لا يمكن أن يكون أول انتاج أدبي موريتاني، اعتمادا على تاريخ السلالات البشرية التي وصلت إلى هذه الربوع، واعتمادا كذلك على الفترة الطويلة التي مرت بها الحركة العلمية في بلادنا قبل عصر ابن رازكة" .
ثم ينتقد الرشيد قصور كتابي الوسيط لابن الأمين وشعراء موريتانيا ليوسف مقلد، مؤكدا بُعدهما عن الممارسة النقدية الجادة، وقصورهما عن أن يكونا ممثلين لكل الشعر الموريتاني.
يقول : " وحسب علمي - و أنا أكتب هذه السطور- ليس هناك أي كتاب عالج أدبنا بصورة جديدة وعلى أساس دراسة أدبية جادة تنتقد وتعلق لتبرز جماله ومكامن القوة فيه، فالذي وصل إلينا من الكتب التي تعالج موضوع الأدب العربي في موريتانيا لا تتجاوز كتاب الشنقيطي (الوسيط في تراجم أدباء شنقيط) ويوسف مقلد (شعراء موريتانيا)، وهذان الكتابان، وإن كان لهما فضل الجمع إلا أنهما بعيدان كل البعد من أن يكونا دراسة أدبية نقدية، كما أنهما لا يمكن اعتبارهما مرجعا لكل آدابنا الموريتانية، فكلاهما قد اختلط بسكان إحدى مناطقنا وسجل ما فيها من أدب، أما باقي تراثنا الأدبي فلا يزال مغمورا يبحث عن من يخرجه إلى النور" .
وفي مسألة تقليد الشعر الموريتاني للشعر الجاهلي، يرى الرشيد أن المقارنة يجب أن تكون بين الشعر الموريتاني وشعر صدر الإسلام، ذلك أن لشعرنا مسحة إسلامية لافتة.
يضيف الرشيد : " في موريتانيا أدب عربي يمكن أن يزاحم أي أدب في الأقطار العربية الأخرى. هو أدب له خصائص بيئية، وعليه مسحة ذويه الروحية، أدب أنتجته قرائح عاشت في بيئة صحراوية، لها ما للصحراء من مناظر خلابة، وفيها ما في الصحراء من دواعي سعة الخيال ورحابته، يعين عليها قوم قد ألفوا التنقل، تتبعا للماء والكلأ، وانتجاعا للمرعى والخصوبة، فيها بيئة تشابهت ببيئة العرب في جزيرتهم، فكان ما يقال من مقارنة الأدب الموريتاني بالأدب الجاهلي، ونحن لا نستطيع أن ننكر أن الشاعر العربي الجاهلي كان في شعره يتغنى بعشيرته وبمضاربها، يصف ناقته وفرسه ومغامراته عليها، يقف على الأطلال ويبكي الديار وتلك كانت إلى حد ما طبيعة الشاعر الموريتاني.
لكن هذا لا يعني أن هناك تطابقا كاملا بين الأدب الموريتاني أو الشعر الموريتاني على الأصح والشعر الجاهلي، لأن هناك فارق العقيدة الإسلامية التي طبعت الأدب الموريتاني بطابعها العام مع خصوصية كل شاعر بما يمتاز به" .
ثم يعمد الرشيد بذكاء نقدي لافت إلى تفكيك معادلة (الشعر الجاهلي – عصر الانحطاط) فيفند نظرية محاكاة الشعر الموريتاني للجاهلي ويجعل من النجاة من عصر الانحطاط نتيجة حتمية لذلك التناص بين القصيدة الموريتانية وقصيدة صدر الإسلام .
فالأدب الموريتاني في نظره ظل " مطبوعا بطابعه الخاص ومعروفا بخاصيته المتميزة ولا يضيره إذا كان لم يمر بمرحلة عصر الانحطاط، ذلك العصر الذي تعودنا أن نقول إنه امتاز بالصنعة والتكلف والبعد عن الأساليب الأدبية الرفيعة التي اعتدناها في أدب العصور الجاهلي وصدر الإسلام والعباسي. و إذا كان أدبنا لم يتأثر بهذه المرحلة، فلا يعني ذلك أنه محاكاة محضة للأدب الجاهلي.
ويعيد الرشيد عدم تأثر الشعر الموريتاني بعصر الانحطاط إلى أسباب ثلاثة :
1 – عدم ملاءمة بيئتنا البدوية الصحراوية لأدب الصنعة والتكلف.
2 – انقطاعنا النسبي عن الحواضر الإسلامية في المشرق العربي التي تأثرت أكثر من غيرها بهذه المرحلة.
3 – بُعدنا عن التأثر بالآداب الأعجمية كالتركية والفارسية الشيء الذي لم يحصل بالنسبة للأدب في المشرق العربي.
وانطلاقا من هذه الأسباب يرى الرشيد أن الأدب الموريتاني " كان عودة بالأدب العربي إلى عصوره الأولى، إلى عصور ما قبل عصر المولدين، وأنه ربما يكون أكثر قربا وتشابها بالأدب العربي في صدر الإسلام، والقارئ قد يذكر معي أن محمد بن الطلبة عندما أراد أن ينافس شاعرا من الشعراء المتقدمين اختار أن يكون ذلك الشاعر أحد شعراء صدر الإسلام حميد بن ثور، وفي القصة دلالة على المثل الأعلى عند شعرائنا إذا ما قلدوا أو نافسوا أو حاولوا النسج على منواله فهم عند ذلك يختارون شعراء صدر الإسلام".
من هذه الزاوية بالذات يطرح الرشيد فرضية استفادة القصيدة الكلاسيكية المصرية من كتاب (الوسيط)، مؤيدا بشيء من التحرز رأي الأستاذ سيد احمد ولد الدي.
وقد نادى بضرورة إعادة النظر في خارطة الآداب العربية، وإضافة الأدب الموريتاني، دون أن يفهم من ذلك أي تعصب لأدب قطري، أو إقليمي .
يقول : "نحن لا نتعصب لأسباب قطرية ضيقة، فالأدب العربي لكل الناطقين بلغة الضاد أيا كان قطرهم، ولكن الأهم هو أن هناك جزء هاما من هذا الأدب بقي حتى الآن مجهولا في الأقطار العربية، وجهله خسارة عربية ووطنية كبرى، فالذي نهدف إليه هو التفاعل الروحي والعلمي بين جميع روافد الأدب العربي.
فلا أحد يستسيغ أن تكون له سلسلة ذهبية، ثم يقبل عن رضا ضياع إحدى حلقاتها، وهذا ما ينطبق على ضياع حلقة الأدب الموريتاني من سلسلة الآداب العربية" .
قضية النثر :
ومواصلة لنفس العتب، خصص الرشيد الحلقة الثانية من سلسلة مقالاته للنثر الموريتاني، وهو بذلك يطرق ريادة أخرى حين يتجاسر على الحديث عن النثر في بيئة لا صوت فيها يعلو على صوت الشعر.
يتساءل الرشيد في مستهل هذه الحلقة : " أين أدبنا النثري؟ لماذا يوجد في قطرنا دواوين شعرية ضخمة، ولا يوجد أي أثر للتراث النثري؟.
أغلب الظن أن ذلك نابع من ظاهرة الإهمال والضياع التي تمتاز بها المجتمعات البدوية، وإلا فأين ما كان يسجله أسلافنا معبرين به عن مواقفهم حول الحياة العامة من شؤون اجتماعية وثقافية وأخلاقية، وحتى سياسية، كالعلاقات بين القبائل والامارات والزوايا" .
وهنا يطالب الرشيد بتكاتف الجهود من أجل التعريف بالأدب الموريتاني، معيدا طرح إشكالية (المركز والمحيط) من خلال سؤال ثقافي منطقي :
"نحن لا نوجه اللوم بصورة مطلقة لمؤرخي الأدب العربي على عدم فسح المجال لأدبنا بين مجموع آداب الأقطار الشقيقة، ولكن لنا نحوهم سؤال يثيره لدينا طبع كتاب (الوسيط) منذ ما يناهز قرنا في القاهرة، حاضرة النهضة الأدبية، ومدينة العلماء والأدباء :
ألم يثر هذا الكتاب حب الاستطلاع في نفوس مؤرخي الأدب العربي ليولوا وجوههم صوب هذه المنطقة من وطنهم، ليضيفوا ما فيها من روائع أدبية إلى تراثنا العربي العام؟.
أولم يجدوا ما يستحق التسجيل ويثير الانتباه؟ إنني لا أعتقد أن هذا الكتاب مع ما فيه من نقص لا يحمل ما يثير انتباه الباحث الأدبي، اللهم إلا إذا تجاهله ولم يكلف نفسه عناء الدرس والمطالعة، فهو كتاب يشمل روائع شعرية لا تقل قيمة عن أي انتاج شعري آخر" .
ويرى الرشيد أن المسؤولية لا تقع على الآخرين، بقدر ما تقع علينا نحن، مشيرا إلى قيمة الأدب في حياة الناس ومقدما تعريفا سوسيوجيا للأدب .
يقول : " إن حياة المجتمع عبارة عن مواقف من الحياة معينة وأسلوب حياة محدد، وظروف اجتماعية خاصة، والأدب هو هذا كله، يشخِّصه ويجسِّمه، ليقدمه في صورة رائعة قريبة من النفس، فهو تعبير عن المشاعر و أسِّها، ولا أخالك قارئي العزيز قادرا على التمييز بين حياتك تعرض أمامك في صور فنية وبين حياة آخرين، فأنت بالأول متأثر، منفعل، ومع الثانية سلبي متفرج، وهكذا الأدب والمجتمع .
فالأدب إنما يعرض صورة المجتمع في أسلوب فني بديع، يهذب النفس وينمي الأخلاق بطريقة ما كانت لتتحقق لولا قدرة الأدب على التصوير، وكأن الأديب ترجمان للمشاعر الدفينة لدى الأفراد، يعبر عنها إذا ما عجزوا عن إبرازها بلغتهم، التي تعتبر مستودع أفكارهم وعلامة نبوغهم وذكائهم" .
الرشيد وأطروحة الدكتور محمد المختار :
كان الرشيد قد قرر إنهاء سلسلته عن (الأدب الموريتاني – الحلقة المفقودة) بعد نشر الجزء المتعلق بالنثر الموريتاني، منوها إلى أنه سيتجه إلى دراسة بعض القصائد الموريتانية، دراسة نقدية، من أجل ابراز مواطن الجمال فيها، ومواطن الضعف.
لكنه تراجع عن هذا القرار لسببين اثنين هما :
- اطلاعه المفاجئ على أطروحة الدكتور محمد المختار ولد اباه عن (الشعر العربي الكلاسيكي في موريتانيا).
- رد زميله إدوم ولد محمد يحي على حلقته الأولى من سلسلته.
يذكر الرشيد أنه اطلع على أطروحة الدكتور محمد المختار ولد اباه La Poesie arabe classique en Mauritanie أو (الشعر العربي الكلاسيكي في موريتانيا) عن طريق الأستاذ عبد الله ولد بوبكر مدير المعهد الموريتاني للبحث العلمي آنذاك.
ومنذ البداية يبدي الرشيد استغرابه من بعض آراء الدكتور محمد المختار معتبرا إياها بحاجة لبعض التحري والحيطة.
يبدأ الرشيد هذا المقال بثناء كثير على الدكتور محمد المختار، وإشادة بريادته النقدية في موريتانيا، لافتا إلى أن ذلك لن يمنعه من إبداء رأيه في هذه الأطروحة، مستشهدا بقول شوقي :
قف دون رأيك في الحياة مجاهدا إن الحياة عقيدة وجهاد
ثم يضيف متحدثا عن الأطروحة وصاحبها : " إنه وهو يكتب عن الأدب العربي في موريتانيا، كان يكتب و كأنه يتحدث عن الإنتاج الأدبي في منطقة، أو في قبيلة، أو على الأصح يصنع قبائل، بل إن كل ما فعل وهو الباحث المعاصر هو أنه ساير ابن الأمين الشنقيطي في كتابه الوسيط، وكأن موريتانيا هي كل ما يعرف صاحب الوسيط، أو كأنه لم يسمع التعليقات التي تقال هنا وهناك عن صاحب الوسيط، فإنه قيل مثلا إن الوسيط تجاهل أكثرية المناطق الموريتانية ولم يتحدث عنها، وانه انتبه إلى أحد المشايخ الموريتانيين في الشرق هو الشيخ سيدي المختار الكنتي، إلا أنه لم يذكر له إلا عدة أبيات قليلة وهو البارع في الأدب شعره ونثره، حتى أنه كان يقول القصائد الطوال بالحروف المهملة دون أن يتناول فيها أي حرف معجم" .
ومع هذا المأخذ وغيره من المآخذ يلتمس الرشيد العذر لابن الأمين " فهو عاش في زمن قبلي يتعذر على الانسان غير الجوالة أن يطلع على الحالة العلمية في كل أنحاء القطر، لفقدان وسائل النقل وصعوبة الانتقال من منطقة إلى أخرى.
هكذا سافر ابن الأمين إلى القاهرة وهو لا يلم إلمامة كاملة إلا بأدباء قبيلته أو من تربطه بها علاقات جوار مواصلات وطيدة، وهو بعد هذا لا يمكن أن يطالب إلا بما وسعته الكتابة فيه، وكان في علمه.. فكتابه لا يحق له أن يوصف بالشمولية، ولكن نقصه واضح العذر، معقول الأسباب، بحكم زمانه ومكانه" .
ولكنه يرفض – أي الرشيد - ما سماه مسايرة الدكتور محمد المختار لابن الأمين، لاختلاف زمنهما ووسائلهما المعرفية، وآليات إطلاعهما .
يقول الرشيد : " أما أن يأتي باحث معاصر، ويجاريه في طريقته، ويجعله مصدره الوحيد لينقل منه فذلك ما لا نستسيغه وتمجه العقول، إلا إذا كان الباحث يتعمد أن يجعل من منطقة معينة بؤرة التجمع العلمي والأدبي لغرض التنويه بها والتعصب لها، فنحن لا ندري أيحق له ذلك أم لا يحق ويكون مأخذنا عليه هو مناقشة مفهوم القطر عنده وما في ذلك من درجة تعصبية مضرة، إنما الذي نناقشه هو الروح العلمية في البحث، ونحاسب الكاتب على عنوانه (الشعر العربي الكلاسيكي في موريتانيا)، ونتساءل : ماذا نعني بموريتانيا هل ان كاتبنا الكبير يؤمن بنظرية الأشرطة التي اخترعها زميلنا إدوم ولد محمد يحي، إنني لا أقبل ذلك ولا أعتقد إلا أنه بريء من تلك النظرية اللامعقولة" .
بعد هذه الملاحظة المتعلقة بمفهوم القطر في عنوان الأطروحة، ينتقل الرشيد إلى نقد التقسيم المدرسي الذي طرحه الدكتور محمد المختار للشعر الموريتاني.
فالمعروف أن الدكتور محمد المختار قسم الشعر الموريتاني إلى ثلاث مدارس هي :
- المدرسة البلاغية – المدرسة الجاهلية – والمستقلين ...
وهذه المدارس في نظر الرشيد تحتاج إلى المراجعة والتدقيق. يقول : " الاتجاه الذي سماه بالمدرسة البلاغية ونعتها بأنها مدرسة المحسنات اللفظية والبديعية وأن أصحابها كانوا يبتعدون عن الطبيعة الشعرية، ويعمدون مجهدين أنفسهم في البحث عن تطريز الكلام وكأنه يريد أن يقول إنها مدرسة الصنعة في الشعر الموريتاني، و أنا لا اعتقد إلا أن في هذا الوصف مبالغة، فالصور لدى ولد رازكة مثلا كانت باهتة إلى حد كبير، فلم يكن فيها خيال مجنح ولئن مال في بعض الأحيان إلى نوع من التصوير البلاغي، فإنه يبقى غالبا في إطار التشبيهات والكنايات القريبة، وابحثْ في شعره فإنك غير واجد ما نعرفه بمدرسة البديع في العصر العباسي الأول، لأنني أعرف أن دارس الأدب عندما يقال له (مدرسة البلاغيين) فإن أول ما يتبادر إلى ذهنه ويعود إليه تفكيره هو أبو تمام والبحتري ومسلم بن الوليد، وابحث كثيرا في مدرستنا التي يتزعهما ابن رازكة كما يقول استاذنا، ولكي يسهل عليك البحث خذ قصيدة (صلاة ربي) لمحمد اليدالي التي أخذها الأستاذ كمثال للمدرسة البلاغية فإنك لا تجد لها جنوحا غير عادي إلى المحسنات اللفظية، فلا نعتقد أنك واجد صورا كتلك التي قد تجد في (وصف الربيع) لأبي تمام أو (وصف البركة) للبحتري، ولكنك واجد صورا من نوع الصور الشعرية في صدر الإسلام".
أما بالنسبة لمدرسة المستقلين فيتساءل الرشيد : " ماذا يعني بالاستقلال؟ واستقلال عماذا؟ هل إن من لا يقلد الشعر الجاهلي ولا يريد أن يكون من شعراء البديع يسمى (مستقلا)؟ إذا كان استقلالا عن المدرسة الأولى والثالثة فإننا نشك في نسبة الأولى إلى البديع وحتى لو كان أصحابها من شعراء البديع نسبيا فإن محدودية الأدب الموريتاني وكونه جزء من كُلٍّ لا يسمح للمدرسة الثانية بأن تسمى مدرسة (المستقلين) لأننا لا نعرف في الشعر العربي مدرسة بهذا الاسم وأعتقد أن الاستقلالية في هذا المجال تكاد تكون متعذرة أو قريبة من ذلك".
ويتفق الرشيد – بشيئ من التحرز – مع الدكتور محمد المختار في مسوغات تسمية المدرسة الثالثة بالجاهليين الجدد والذين أعطى زعامتهم للشاعر محمد بن الطلبة اليعقوبي.
فالرشيد يرى أن هذه المدرسة ليست جاهلية أكثر منها صدر إسلامية، فالقارئ – في نظره – يلاحظ "عند ابن الطلبة غرابة في اللغة وجزالة في العبارة أكثر مما يجدها عند بعض الشعراء الجاهليين كزهير بن ابي سلمى والنابغة الذبياني، وقد يجد تشابها معه في هذا المضمار عند حميد بن ثور والفرزدق في بعض قصائده، ومع ذلك فإن أقرب تصنيفات الأستاذ إلى الواقع هو تصنيفه لهذه المدرسة خصوصا ابن الطلبة لما عرف عنه من اعتناء بالمفردات اللغوية واعتماده على لغة القاموس، وإن لم يخل شعره الجزل الغريب العبارة من صور بلاغية".
ولا ينسى الرشيد أن يعرج على التقسيم الذي خص به الدكتور محمد المختار المدرسة الثانية حين اعتبرها مكونة من ثلاثة فرق هي :
- فريق حرمة ولد عبد الجليل – فريق الشيخ سيدي محمد ولد الشيخ سيديبا – فريق محمد ولد احمديوره.
فيقول الرشيد إنه لم يجد ما يلفت انتباهه، "ويمكن ان يكون ظاهرة منفردة من بين هؤلاء إلا محمد ولد احمد يوره ذلك أنني لاحظت فيه نوعا من الألفة الشعبية والقرب من التعبير عن الأحاسيس العامة حتى يمكن أن يسمى بالشاعر الشعبي خصوصا في غزلياته، فهو بحق شاعر ظريف استطاع أن يمزج الفصحى بالعامية وأن ينظم شعرا يناسب مجالس السمر والاستجمام بأسلوب قريب من الانسان الشعبي العادي فهو إذن ظاهرة تستحق الدراسة لأنه نبغ في منحى معين.
أما أولئك الذين وصفهم بالبساطة والصدق فإنني في الحقيقة لم أدرك ماذا يعني بالبساطة والصدق؟ أهما في المعنى أم اللفظ؟ ولعلي أنا لم أدرك، وقد يكون ناتجا عن جزئية اطلاعي على الأطروحة".
هذه هي أهم الاشكالات والقضايا التي أثارها الأستاذ الرشيد ولد صالح فيما يتعلق بمواضيع ريادة الادب الموريتاني وعلاقته بالتراث الشعري العربي، ثم مدى كفاءته ليكون ضمن سجل الأدب العربي الحديث.
كان الرشيد مهووسا بإشكالية تناسي المشارقة للعطاء الشعري الموريتاني وقد دافع عن أحقية الأدب الموريتاني في البروز والاطلاع بنوع من الثقة والتسامي على عقدة المركز والمحيط في الثقافة العربية.
كما كان جريئا في معارضته للرأي السائد حول ريادة الشعر الموريتاني عندما رفض ريادة ولد رازكة وهو الرفض الذي أثبتت الأيام صحة ما ذهب إليه الرشيد فيه.
ثم نقده الصريح لتقصير كتابي الوسيط وشعراء موريتانيا ثم أطروحة الدكتور محمد المختار ولد اباه التي شكلت بعد ذلك نواة لكتابه (الشعر والشعراء في موريتانيا).
وما يميز العطاء النقدي للرشيد هو طرقه لقضية النثر الموريتاني، ويكاد يكون أول من تساءل عن ماهيته وانتقد الصمت المحيط به في وقت يتسيّد فيه الشعر ابداع ودراسة كل مناحي الكتابة عندنا.
لم يترك النقاد والدارسون آراء الرشيد المثيرة تذهب سدى، فقد شكلت بالنسبة لهم الصخرة التي حركت بركة الجمود الثقافي في موريتانيا نهاية السبعينات.
وهذا ما جعل الردود تتالى عليه، والغريب أن أغلبها كان منتصرا أو مدافعا عن الوسيط وعن ريادة ولد رازكة، او مقترحا تقسيما جديدا للشعر الموريتاني.
ومن أهم الردود عليه والتي تم نشرها في جريدة الشعب :
- الأستاذ إدوم ولد محمد يحي ومقاله ( رد على مقال < الادب الموريتاني، الحلقة المفقودة> أصداء حلقة فقدت فأثرت)، وهو مقال من حلقتين.
- الأستاذ محمدي ولد القاضي و مقاله ( بين الأطروحة والرشيد وإدوم) وهو مقال من ثلاث حلقات .
- الأستاذ أحمد الولي ومقاله ( على هامش الحلقة المفقودة)
- الأستاذ محمدي ولد الطلبة ومقاله ( حول آراء الرشيد في الأطروحة)
- الأستاذ الشريف ولد بونا ومقاله ( اتهام الوسيط بالتقصير بعيد عن الحقيقة) وهو مقال من حلقتين، كان عنوان الثانية منهما ( الصور في شعر ولد رازكة ليست باهتة).
وكل هذه المقالات كانت مساهمة هامة في إثارة الأسئلة والقضايا عن الشعر الموريتاتني ورموزه.
ويبدو أن الرشيد وبسبب التزامات نقدية أخرى قرر الرد على ناقدين اثنين فقط، هما ادوم ولد محمد يحي وأحمد الولي .
فقد تحدث إدوم ولد محمد يحي عن ما سمي (نظرية الأشرطة) معتبرا الشعر الموريتاني يخضع في تقسيمه إلى أشرطة جغرافية علمية ثقافية..
كما قدم تقسيما أكثر غرابة في نظر الرشيد من التقسيم الفني للدكتور محمد المختار، حيث يرى إدوم أن مدارس الشعر الموريتاني هي :
- المدرسة اليعقوبية – المدرسة الحسنية – مدرسة إكيدي ...
وقد رد عليه الرشيد في المقال الذي تناول فيه أطروحة الدكتور محمد المختار، قائلا : " أما ما آخذه على الصديق إدوم فهو تلك النظرية التي طلع علينا بها، وهي نظرية (الأشرطة)، فلا أعتقد أن هناك من يستطيع أن يصدق بتخصص المناطق وإطلاق الأحكام على أساس أن منطقة كذا قد عرفت بالقرآن، ومنطقة كذا قد عرفت بالشعر وعلوم اللغة.
قد نقبل أو نصدق أن منطقة ما قد امتازت بالاهتمام بدراسة علوم اللغة والآداب ومنطقة أخرى قد عرفت باهتمامها بدراسة القرآن وباقي العلوم الشرعية، وهذا لا يعني إطلاقا أنه لا يوجد أدب في هذه ولا قرآن أو علوم شرعية في تلك. الأمر يا أخي إدوم لا يمكن إلا أن يكون نسبيا، فأنت لا تستطيع أن تقول إن الطابع العام لمنطقة ما هو كذا، أو ذاك لا يوجد إلا نادرا ، أما أن تصدر حكما عاما شاملا فتلك هي مجافاة الحقيقة والابتعاد عن الحيطة العلمية قبل إصدار الأحكام، فأنا لا أعتقد يا أخ إلا أنك تعلم أن الشعر ظاهرة إنسانية، وأينما وجدت مجموعة من البشر فهناك شعر بدرجة أو بأخرى، قد تكون راقية وقد تكون سافلة، فالتعبير عن العواطف لا يقبل التقسيم بالأشرطة الأرضية، كما تفضلت وقسمت البلاد إلى مناطق للتخصص العلمي".
أما الأستاذ أحمد الولي فقد قال في بداية مقاله إنه لا يوافق الرشيد على أي رأي من آرائه موافقة تامة، وهو ما رد عليه الرشيد بأن " الأمر يهون فمن طبيعة البشر أن لا يتفقوا بل إن شقة الخلاف تتسع إذا تعلق الأمر بأمور نظرية يرحُب فيها المجال حتى يتسع لكل الآراء والأفكار" .
ثم يمضي احمد الولي في تقديم الفرضايات المؤكدة لتطابق الشعر الموريتاني مع الشعر الجاهلي، هو التطابق الذي رفضه الرشيد عند حديثه عن مميزات الشعر الموريتاني وحين رفض وجود مدرسة جاهلية في مدارس الشعر الموريتاني.
والسبب في ذلك الرفض، يقول الرشيد هو أن " الشعر الموريتاني وإن غربت لغته، وعبر عن بيئة صحراوية بدوية فلا يعني ذلك أنه تقليد للأدب الجاهلي لعدة عوامل :
- البعد الزمني واختلاف العصر ثم الفرق في العقيدة، وهو لهذا لا يمكن أن نتصور (مثله الفني) الادب الجاهلي، و إنما الأدب الذي يلائمه عقيدة وإن اختلف معه في العصر وهو أدب صدر الإسلام".
بهذه الآراء نغلق باب نقاش أدبي هام عرفه العام 1979 عن الشعر الموريتاني، وكان الرشيد أحد أبرز نجومه، وقبل مغادرة هذا الموضوع جدير بي أن أذكر أن محمدي ولد القاضي كان في صف الأستاذ الرشيد وخاصة حين رفض هو الآخر ريادة ولد رازكة والشيخ محمد اليدالي ، وكذلك حين رفض نظرية الأشرطة عند ادوم ولد محمد يحي وتقسيمه القبلي لمدارس الشعر الموريتاني.
مساهمات أخرى :
لم تكن هذه هي كل مساهمات أستاذنا الراحل الرشيد ولد صالح النقدية، فبعد هذا النقاش الطويل، اهتم بدراسة بعض نصوص الشعر الموريتاني التي اختارها لغايات فنية بحته، فنشر في جريدة الشعب عدة مقالات تحت عنوان : (من روائعنا الأدبية) تناول فيها شعراء كثر من بينهم :
- الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديا الذي تناول قصيدته (حماة الدين) بالدرس والتحليل معتبرا إياها " وثيقة تاريخية تشهد على فترة من تاريخنا قد تفيدنا في حاضرنا وهي ضرورة الوحدة كلما هددت مقدساتنا وديست كرامتنا وهُددنا في وجودنا.
وهي كذلك عنوان لموقف رجل الدين النابه الذي لا يقبل الخنوع والركون في المعبد، بينما الفساد ينخر في الناس حوله وحواليه" .
كما تناول همزيته التوجيهية بالدرس والتحليل، معتبرا إياها صرخة أخرى في وجه بعض العادات المجتمعية السيئة.
- محمد ولد احمد يورة الذي تناول بعض مقطعاته الشعرية في مجالا مختلفة كالغزل والتوجيه والنسيب وغيرهم، وختم بسؤال : " لمَ كان امحمد قصير النفس في شعره.. أعن قصد أم لمحدودية قدرته؟ " .
ولأنه تمنى أن يجد من يجيبه على هذا السؤال، فقد تكفل به أحد أقرباء الشاعر وهو محمدن ولد شماد الذي نشر مقال رد على الرشيد تحت عنوان : ( ابن احمد يورة لم يكن قصير النفس وإنما كان شاعر مقطعات، وكان فقيها بالدرجة الأولى، وقد رأى البعض أن شعره كان صوفيا).
إضافة إلى هذه المختارات الشعرية انبرى الرشيد لنقاش آراء الدكتور طه حسين في أبي العلاء المعري، فنشر مقالا بجريدة الشعب تحت عنوان : ( هل كان أبو العلاء المعري شيعيا فاطميا؟).
وفيه بدا غير معارض لآراء طه حسين، وخاصة عند بسطه لظاهرة التشاؤم في شعره.
بعد الانتهاء من هذه الدراسات عاد الرشيد إلى قضية الشعر الموريتاني وطالب بعودة النقاش حول القضايا النقدية الكبرى لهذا الأدب وذلك في مقال نشره بعنوان : (لماذا لا نعرض تراثنا الأدبي أمام مرآة النقد؟ دعوة جديدة لنقاش موضوعي ومثمر) .
يقول في هذا المقال : " إن ما أدعو إليه هو أن نحاول إظهار نهضة أدبية في بلادنا عن طريق الاختلاف حول تراثنا وانتاجنا الحالي بالمساجلات والنقاش والحوار البنّاء.
فمن المستساغ والمعقول أن نرد على أخ أو زميل في موضوع ما بطريقة موضوعية وبأسلوب علمي واضح عندما أجد أنه قد أورد رأيا لا أشاطره إياه، أما أن أظل متحفزا للدفاع عن أثر معين بدون موضوعية وكأنني أسد يدافع عن عرينه بدون أن أمحص الحق من الباطل والصواب من الخطأ فذلك هو ما نسميه التعصب" .
هذه إطلالة مخلة على النتاج النقدي لأستاذنا الرشيد ولد صالح رحمه الله.. وهي آراء لو أتيح لها أن جمعت في كتاب لكانت نبراسا يضيء للدارسين طريق البحث والمساجلة والنقاش الفكري المنهجي.
أرجو أن أكون قد وفيت الراحل حقه في الذكر والتنويه، وهو حقيق بذلك لما تركه من آثار أدبية عميقة، وآراء ما ولت تمتاح جِدتها من سفرها في أثير الزمن.
رحم الله الرشيد وأسكنه فسيح جناته.