الإساءة ليست وجهة نظر
تشهد موريتانيا الواقعية والافتراضية حراكا ونقاشا غير مسبوق بسبب الحكم الصادر بحق كاتب المقال المسيء، ويكشف هذا النقاش لمن يتابعه في أي مستوى من مستوياته عن أزمات ثقافية وأخلاقية ومعرفية جدير بكل حريص على حاضر هذا البلد ومستقبله التوقف معها والإسهام - ولو بجهد المقل - في تحليل جذورها واقتراح سبل تجاوزها بالتي هي أحسن وإلى التي هي أفضل.
في هذه التدوينات السريعة سأحاول فتح نقاش حول بعض هذه القضايا راجيا أن تتسع نفوس وعقول وعواطف الجميع لها.
أول هذه الملاحظات متجهة لمن يقللون من خطورة الإساءة للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم واعتبارها مجرد وجهة نظر تستحق الاحترام، وهذه خطيئة كبرى وقع فيها العديد من دعاة الحداثة والعلمانية، والحقيقة أن السب والإساءة ليسا وجهات نظر ولو كانا لإنسان عادي أحرى إن كانا لأعظم وأفضل وأعدل وأكرم خلق الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا الكلام ليس كلاما دينيا ولا عاطفيا فحسب، بل هو أيضا كلام موضوعي وعقلاني وقانوني وعابر للأديان والثقافات فلا وجود لأمة ليس لها ثوابت ورموز يعاقب شرعها وقانونها ومجتمعها من يتعدى عليهم ونحن لسنا بدعا من الأمم ورمزنا وقدوتنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم هو أكبر الرموز وأفضل القدوات.
إنها حالة من الاستلاب الكامل تلك التي تجعل البعض يسلم للغرب والشرق بمعاقبة من يخرق الثوابت هناك ويجادلنا هنا - بغير التي هي أحسن - حين نطرح في السياق الإسلامي فكرة معاقبة من يسيء للرسول الكريم شفيعنا محمد عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم.
نعم لنا أن نناقش أي نوع من العقاب ينبغي أن يكون للمسيئين، وهل يكفي العقاب وحده، ولنا - بل علينا - التأكيد على ضرورة العدل في تنزيل العقوبة على الوقائع وفي تطبيقها على جميع المخالفين...
النصرة ليست وجه نهار
في التدوينة الأولى من هذه التدوينات حول الإساءة والنصرة بسطت - فيما يسمح به المقام الفيسي - فكرة جوهرية خلاصتها أن الإساءة ليست وجهة نظر، وأن لكل أمة رموزا وثوابت تحميها وتمنع التعدي عليها وتعاقب من يفعل ذلك فدعونا الآن ننتقل إلى فكرة جوهرية أخرى عنوانها أن النصرة ليست وجه نهار؛ بمعني أن هذه الهبة الجميلة للدفاع عن عرض الرسول صلى الله عليه وسلم لم تترجم قبل - وأتمنى أنها ستترجم بعد - في نصرة حقيقية للرسالة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم وجاء بها النبيون قبله؛ رسالة العدل والقسط في الأمر كله. إن مجتمعنا هذا - قد يكون الأدق أن نقول مجتمعاتنا هذه - تعج وتضج بمظالم تتفطر لها الأكباد وتمثل في جوهرها إساءة بالغة للإسلام ولنبي الإسلام قدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم، إنها كومات من الإساءات الجماعية التي استقرت عليها ممارساتنا الاجتماعية التي نعيش في كنفها ونحن نظن أننا نحسن صنعا.
النصرة التي تحركنا الآن، وحق لنا أن نتحرك، الغضب الذي يتملكنا الآن وحق له أن يتملكنا أين كان وأين كانت كل هذه القرون وكل هذه العقود ونحن يستعبد بعضنا بعضا بغير حق، يظلم بعضنا بعضا بغير حق، يحقر بعضنا بعضا، يغمز بعضنا في أنساب بعض، بل حتى في ديانته، يحول بعضنا بعضا إلى مادة للضحك والتسلية والترفيه والقيام ببعض المهمات غير النبيلة.
لا أريد أن أفتح حسابات الماضي فدون ذلك خرط قتاد ليس هذا وقت تعطيل الأيدي بعلاج آثاره وجروحه.. دعونا نفتح حسابا في المستقبل وله، نغضب فيه معا وجميعا حين نرى ظلما واسترقاقا وطبقية وعنصرية فتتمعر لذلك وجوهنا، وتتعالى في أوجه ممارسيه أصواتنا وتغبر في سبيل الله لتغييره أقدامنا.
دعونا نزيح الستار عن نصوص الشرع الحاضة على العدل وعلى الاهتمام بالضعفاء والمهمشين دعونا نتحاض على إطعام المسكين وإنصاف المسكين وإغاثة المسكين.
هيا بنا نفتح في حساب المستقبل فصولا نتدارس فيها كيف بادر المستضعفون (المنبوذون الأرذلون بلغة الجاهلية الأولى) لنصرة سيد الأنام وشريعة الإسلام يوم خذله الملأ القرشي وعاب عليه "كبار القوم" مفارقة ما كان عليه الآباء، وأنه لم ينزل على رجل من القريتين عظيم.
دعونا نفتح في جنبات مجتمعاتنا المعتمة بثقافة التعالي على الضعفاء ومجاملة الأقوياء فصولا للنصرة الدائمة نعيش وإياهم خلالها في ظلال "والله لو أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سرقت لقطعت يدها".
دعونا نكتب بمداد النصرة ونورها عقدا اجتماعيا؛ نتعاهد فيه أن لا نكون مثل بني إسرائيل الذين "إن سرق فيهم الضعيف قطعوه وإن سرق القوي تركوه".
هل تسمحون أن نأخذ واجبا منزليا في هذا الحديث ونطرح على أنفسنا سؤالا حول طريقة ودرجة غضبنا من المسيئين، وكيفية استحضارنا للنصوص الحاكمة والمخارج الممكنة في حالاتهم، أتمنى أنكم لا تمانعون في القيام بالواجب، وإن كنت أدرك أننا جميعا نستمتع أكثر بالأحاديث حين تكون عامة أو بعيدة أو في أسوء الأحوال غير مطبقة علينا فنحن - كما نجهر بذلك في أمثالنا العصية على الفلترة - "ش فين ما يلهينا"
العقوبة ليست ثأرا
حين يتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم العدل وبالتمييز لا يكون أمام من في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا الغضب وإلا الصراخ في وجه من يتفوه بهذا الكلام ويلك من يعدل إن لم يعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد خبت وخسرت، لكن هذا الغضب مثله مثل أي سلوك للإنسان المسلم لا بد أن يتقيد بالشرع فلا يكفي للسلوك لكي يكون مقبولا شرعا أن يصدر عن عاطفة شرعية المصدر والباعث بل لا بد أن يوافق الشرع فالأمر جلي واضح "أن لا نعبد إلا الله وأن لا نعبده إلا بما شرع".
متوقع أن يذهب الغضب من فرية الطعن في عدالة الإسلام حد إشهار السيف واقتراح قطع العنق لكن هنا يكون من المهم استحضار آثار ذلك على صورة الإسلام وطريقة تقديمه حتى لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه.
إن الفلسفة الحاكمة للعقوبات - والحدود منها- هي فلسفة ردع يسعي للإصلاح {ولكم في القصاص حياة} ومنطق الردع والإصلاح بعيد من منطق الثأر والانتقام الذي يغلب على النفوس في أوقات الغضب.
وعلى ذكر الردع يستحضر كثيرون فكرة جوهرية في دفعهم باتجاه تغليظ العقوبة في قضايا الإساءة، وهي أن القسوة على هذا المسيء ستثمل ردعا لأمثاله، وهذه فكرة سليمة لكنه يغيب عن أذهان المراهنين عليها أن العقوبات جزء من منظومة حين تطبق وحدها دون بقية المنظومة تأتي شائهة ومشوهة للكل.
سأكون أكثر صراحة هنا لأقول لكم إنه بالنسبة لي من الإساءة لتطبيق الشريعة مثلا اعتبار تنفيذ نظام مستبد فاسد راع للعبودية والعنصرية بعض الحدود تطبيقا للشريعة.
إن الشريعة نظام شامل أساسه العدل وضمن مقتضياته توفير الحقوق الأساسية للناس من التعليم إلى الصحة إلى التنمية إلى الحق في التعبير وفي الاختيار وفي التجمع، وليست الشريعة مجرد عقوبات ينفذها ظالمون حين يدركهم الغرق.
وفي كل الأحوال فقد أحاط الشرع تنزيل العقوبة بكل الضمانات التي تضمن العدل، وأقر النزول على مقتضيات احترام الشكل فيها حتى ولو خالف الجوهر والحق.
ولا شك أن من ضمانات المحاكمة العادلة وجود محامين للمتهم أي متهم، وليس من العدل ولا من الفقه بالشرع ولا القانون محاولة سلب أي متهم من هذا الحق لأن ذلك يعني إخلالا جوهريا بحق أساسي من حقوقه هو الحق في المحاكمة العادلة.
لا حل إلا بالعدل
ختاما لهذه الخواطر حول الإساءة والنصرة لنتصارح بحقيقة نعرفها جميعا ولكننا نحاول جميعا - كما هي عادتنا مع أغلب قضايانا إنكارها والدوران حولها ومحاولة الالتفاف عليها - ألا وهي أن المشكل الجوهري يكمن في المنظومة التي سيطرت وهيمنت في هذه البلاد لقرون وعقود وهي منظومة مختلة جائرة، منتهية الصلاحية أخلاقيا وماديا ومعنويا ولم تعد تجدي معها محاولات التثبيت أيا تكن الأدوات.
إن حالة الظلم والغبن والقهر والجهل التي تعاني منها مكونات وقطاعات واسعة من هذا الشعب تمثل أرضية خصبة لكل أنواع الشرور والمخاطر؛ الميوعة والإلحاد، التطرف والغلو، التشرذم والانفصال، والطغيان والاستبداد...
وليس أمامنا من حل إلا ذاك الحل العمري الرائع الناجع العابر للأزمان؛ أعني وصفة عمر بن عبد العزيز الذي كتب يوما لأحد ولاته حين استصرخه طالبا مددا عسكريا لإخماد تمرد في ولاية حدودية... كتب عمر بعد أن قلب الصفحة كلمتين عظيمتين: "حصنها بالعدل".
لكل مشكلاتنا التي نواجه وهي ليست مشكلات سهلة بالمناسبة حل واحد وحيد: هو أن نقلب صفحاتنا المختلة ظلما وغبنا ونفتح صفحة جديدة نتفق لها على ذات العنوان الحل في العدل.. ونضرب صفحا عن رهانات الاستلاب والإلحاق والإكراه والإرهاب والتنكيل فما تلك بعناوين حل بل هي عناوين متعددة لمزيد من العنت والتقهقر... فياليت قومي يعلمون.
نقلا عن صفحة الكاتب على فيسبوك