بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله.
الشانئ الأبتر، والمِحَن الثلاث:
ثلاث "مِحَن" ذكِرن في سياق ردّة المسيء. فهل من مقارنة؟
"محنة" الجعد بن درهم، "محنة" ابن المقفع، محنة ابن جرير الطبرىّ؟
مقال لم ينشر، كنت قد كتبته منذ زهاء سنة.
***
لا يعدَم الناظر في كثير من كتب الحداثيِّين العربِ، ودراساتهم وبحوثهم في الدوريات، والمجلات والمواقع، من يبكُون أو يتباكَوْن على من يسمُّونهم شهداءَ الفكر والمعرفة، يذكرون منهم الجعد بن درهم، وخليفتَه الجهمَ بن صفوان، وعبد الله بن المقفع، وبشار بنَ بُرد، وأبا المغيث الحسين بنَ منصور الحَلاّجَ، والفيلسوفَ السِّيماوىَّ المنطقىّ الشهابَ السّهْروَرْدِىَّ، وآخَرين سواهم... في قائمة مظلمة، ممن قتِل جراءَ زندقته وكفره وإلحاده.
وأما من نجا من حدّ السيف والصَّلب، فقد عُرّض ـ في نظرهم ـ للأذى والتكفير، ومُنع حريةَ التفكير والتعبير، في تهويل في السرد مُخيف، وتحامُل على أهل السنة عنيف.
وقلما تجد من يشير منهم إلى محنة الإمام أحمد ابن حنبل على يد المعتزلة، أو اضطهاد ابن حزم، وإحراق كتبه على يد المتعصبة، أو محن ابن تيمية وسَجنه مرارا كثيرة على يد جماعات من المتفقهة، والمتكلمين، والقبوريين، وإن ذكِرت فعلى استحياء، فضلا عن محن أخرى كثيرة حصلت لأهل السنة، وما تزال تحصل، بل وتحصد اليوم آلاف الأرواح في أفغانستان والشيشان والشام والعراق واليمن... على أيدي الرافضة، والباطنية، والصليبية الحاقدة المقبوحة، والشيوعيين الأرجاس، واليهود الأنجاس!
ولا تجد من هؤلاء الحداثيين من يستنكرها، أو يأبَه لها أصلا.
بل ترى كثيرا منهم يعدّها ـ تبعا لسادته وكبرائه ـ حربا مشروعة على الإسلام الذي يصِمُونه ـ تلبيسا ومكرا ـ بالتشدد والتطرف والإرهاب! بل منهم، ومن غيرهم من أصبح يدندن حول قضية فلسطين والأقصى، ويعدّ المقاومة هناك عبثا، وأمرا غير مشروع!
وأما طعنُهم في معتقد السلف، ولمزُ أهل الحديث، وتكذيبُ نقَلته، وعدمُ اكتراثهم بالسنّة مصدرا وهدْيا، وسخريتُهم من الفقه والفقهاء، ووصفُهم التراث بالعُقم والإجداب والظلامية وبالثقافةِ اللفظية... وتعظيمُ الفلاسفة والملحدين والكتّاب والأدباء والفنانين، فحدّث عنه ولا حرج.
ومنذ أكثرَ من سنتين هلك هالك بهذا البلد في عِرض صفوة الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فكتبت رسالة علمية مختصرة في رِدَّته، ووجوب إقامة حد الردة عليه، وسمَّيتُها "رفع الحسام على من سب خير الأنام"، وطبعتها على عجل، وتلقاها أهل العلم والفضل والإنصاف بالقبول، لله الحمد.
وقد ألقِى القبض على الشانئ الأبتر، وماجت الطرق بالحشود المطالبة بقتله، وتبرأ منه بعض ذويه ـ وحسَنا فعلوا ـ وانبرى آخرون للدفاع عنه ـ وساء ما ارتكبوا ـ وكشَرت سفاراتٌ غربية منتصرةٌ للمثبور عن أنياب عُصْل، وتلتها منظماتٌ مشبوهة كشفت عن وجوه كالحة، وسلقت المسلمين بألسنة حداد.
وبالرغم من ضجيج أنصار الهالك وعجيجهم، من كفرة أصليين ومرتدين، فقد أصدر القضاء حكم الله عليه بالقتل، ولكن لم ينفذ ـ حسب المألوف ـ بل استؤنف، وأعيد الهالك إلى معتقله.
ثم قدِّم للقضاء بعد أكثر من سنتين، وحين دنت ساعة الصفر، ودعا أئمة ودعاة إلى قتله، كما فعلوا أولَ مرة، وصمَتَ آخرون، كما فعلوا أول مرة أيضا، وهُرعت الجموع كَرة أخرى، وهاجت بها الطرقات، وبحّت حناجرها في الهواء، حضر بعض السفراء الغربيين المحاكمة. ولما أزفت الآزفة، أجِّل الحكم، فساد الغموض، وخامرت القلوبَ الوساوسُ، وهجَمت عليها الهواجس.
ثم ذابت القضية يومَها تحت وهج الحديث عن المقاومة، ورهج عيد الاستقلال، وضجيج القنوات، ودب إلى الأمة النسيان والفتور رويدا رويدا، وتلاشت الفورة في غمرة الحياة، وخارت القوى حتى كأن لم يعُد أحدٌ من الكافّة يعلَم بعد علم شيئا.
ومع دنوّ اليوم المشهود، يوم العشرين من دجنبر 2016م عادت الحياة، وتكرر المشهد من جديد، فعُقدت الندوات، وتليت القصائد، وألقيت الخطب، وهاجت المنتديات، واضطربت المنابر، واشتعلت المواقع، وارتفعت الأصوات، واحتشد الآلاف...
ولكن، كانت قوى الأمن صبيحة ذلك اليوم بالمرصاد، فغَلّقت المنافذ، وألقَت القنابل، وأرْجِئَت المحاكمة مرة أخرى! تُرى لأيِّ شيء أجّلت؟
بيد أنه أيا كان السبب، فإن للشانئ الأبتر موعدا لن يُخلَفه.
***
يتواصل، بـإذن الله عز وجل.