كنتُ قد قطعت على نفسي عهداً ألاَّ آلو جهداً في تتبع الرواية الموريتانية على نُدرتها، وما أراني سأخلف ذلك العهد رغم العوارض التي تنوب، والكسل الذي يكبّل الهمّة.
أزعم أنني اطلعت على بعض ما كُتب فيها مما يمكن أن يصدق عليه اسم الرواية، بدءاً بروايات أحمدُ عبد القادر، مروراً بموسى أبنو، وليس انتهاء بالروايات الصادرة حديثاً، لمحمد امّين، ومحمد فاضل عبد اللطيف، ومحمد محمد سالم، وأحمد محمد الحافظ.
ليس هذا استعراضاً ولا تبجّحاً، بقدر ما هو تمهيد لملاحظة بدت لي متكررة كثيراً، لدرجة بتّ معها أشك في عرضيّتها واعتباطيّتها. هذه الملاحظة البسيطة هي ولع "روائيّينا" بالركون إلى التاريخ بشكل مبالغ فيه، ويدعو للتساؤل هل هو اعتباطي لهذه الدرجة، أم مؤشر على أن الرواية عندنا ما تزال ناشئة، خاصة إذا ما علمنا أن جيل الروّاد الروائيين (جورجي زيدان وغيره) اتكأ كثيراً على التاريخ واستنطقه، وجعله مادة خصبة للرواية.
وعليه تصبح صيغة التساؤل هي: لمَ لم يكتب روائيُّونا عن مواضيع في السياسة مثلاً، أو في الاجتماع، أو في الفلسفة؟
هل لأن طبيعتنا البيئية والثقافية والاجتماعية مختلفة شيئاً ما عن الآخر؟ هل لأن لدينا إشكالات تتعلق بالهوية والتاريخ وغيره؟ ربما.
هذه القاعدة لم تنخرم في رواية "عناقيد الرذيلة"، لأحمد محمد الحافظ، الذي اختار موضوعاً قديماً متجدداً، بسط فيه القول بأسلوب روائي باذخ، ولغة صقيلة اتخذت بين صعوبة اللغة القاموسية وبساطة اللغة اليومية سبيلاً وسطاً، تزيِّنه جدة في المعالجة، وحدة في الخطاب أحياناً، مع اعتماد جُمل لغوية قصيرة تشبه إلى حدّ ما اللقطات التلفزيونية الكاشفة والسريعة.
يستهل الكاتب أحداث الرواية بقصة لمات ول بوذنابة، ويؤطرها تاريخياً في عام 1996، ومكانياً في إعدادية البنين بنواكشوط، حيث كان لمات ينتظر إعلان نتائج الباكلوريا طمعاً في النجاح متفوقاً، والظفر بمقعد وكالة ناسا للفضاء الذي خصصته لموريتانيا ذلك العام، ثم يأخذنا معه في رحلة ممتعة على امتداد فصول لاحقة، يتبدل خلالها البطل وتتغير معالم الأمكنة والشخوص، لكن سيطرته على تدفق الأحداث سرعان ما تُعيدنا إلى لبّ الرواية.
وكلّما توغلنا في فصول الرواية أكثر، كلّما انكمش السرد "الجانبي" وتمحّض العمل لموضوعه الأساس، وصولاً إلى لحظة تاريخية على مشارف القرن العشرين حيث الزمان عصراً، عندما تم اختطاف فتاتين جميلتين، إحداهما ذات شأن كبير في مجتمعها، هي "إسلم عربيه" وو"صيفتها" التي لا نعرف لها اسماً، على يد فارسين مجهولين سنعرف لاحقاً أنهما "سيد لقجر"، و"امحيمدات اسبع".
من هذه اللحظة تحديداً نعرف أن العمل يعالج موضوع العبودية، وأن الكاتب أصَّل لها ضمنياً بوصفها حالة خضوع إنسان لآخر تحت قوة السلاح، حتى وإن كان "هذا الآخر" ذا شأن كبير في مجتمعه.
غير أن الكاتب هنا يقع في ارتباك فني قد لا يفوت بعض القراء الحاذقين؛ ذلك أن "اسلم عربيه" ـ كما توحي القصة ـ ليست من مجتمع الفارسيْن على الأقل، ولا تنتمي لحيِّزهما الجغرافي؛ لأنها "فتاة صغيرة تسكن في قصر منيف عامر، بمدينة "غومبو" الهادئة الوادعة"، وكان ينبغي ـ حسب اعتقادي ـ أن تحمل اسماً فنياً يُحيل إلى مجتمعها وحيّزها المكاني، حتى يكون هناك تناغم بين الأسماء وإحالاتها؛ لأن ذلك يلعب دوراً كبيراً في العمل السردي.
ولا شك أن فتاة "غومبو" لو حملت اسماً آخر غير الذي ذُكر، ثم تبدّل الاسم بعد اختطافها و"تحوُّلها"، وأصبح "إسلم عربيه"، لكان أكثر منطقية وأجدى فنياً؛ لأن ما سيصاحب عملية "التحول" على الصعيدين النفسي والواقعي من أحداث، كان سيُغني الرواية ويُضفي عليها طابعاً حيوياً أكثر.
عدا ذلك تبدو الأسماء الأخرى في الرواية منسجمة وغنية بتفاعلها الإثني والشرائحي والوظيفي، في مجتمع تعدد أعراقه وثقافاته، حيث نجد "سيد لقجر"، و"امحيمدات اسبع"، يحيلان إلى فئة حسان، كما نجد شيخ أهل الطالب يرمز للزوايا، و"ابيليل" ينتمي لطبقة الحراطين، وجوب ينتمي لعرقية الزنوج.
هذا التعدد العرقي والإثني داخل العمل، يوازيه ـ في اتجاه آخر ـ تعدد وظيفي؛ إذ نجد إسماعيل معلم العربية، كما نجد جوب معلم الفرنسية، فضلاً عن ممرض القرية الحالم بالمُثل الارستقراطية.
ومن الطبيعي في مجتمع متعدد الأعراق والفئات والثقافات، أن تحدث هناك مصادمات واشتباكات تختلف حدتها من موضوع لآخر، تبعاً لاختلاف المصالح وتناقضها أحياناً. ومن ذلك مثلاً قضية التعريب، التي تناولها الكاتب من خلال الحديث عن احتكاكات المعلم جوب؛ ذي الأصول الزنجية الذي يتخذ من الفرنسية لغة للتدريس والتخاطب، ومدير المدرسة إسماعيل؛ ذي الأصول العربية والميول العروبية الذي يحاول فرض اللغة العربية لغة للتخاطب والتدريس.
وهذا يُحيلنا إلى إشكالية أعمق من ذلك بكثير تتعلق بمشكل الهوية، وتصارع الإثنيات كل على حدة، لمحاولة فرض نفسها بطريقة أو بأخرى، في ظل غياب الدولة الوطنية التي تتعالى على المحاصصات الطائفية والعرقية وتقدم نفسها بديلاً عن كل ذلك..!
كما تزخر الرواية بإحالات تشير إلى صراع الإيديولوجيات المختلفة، إبان حقبتي السبعينات والثمانينات في موريتانيا، وما عرفته تلك الحقبة من مدّ وجزر بين الحركات والحكومات المتعاقبة آنئذ.
وبعيداً عن ذلك، سلك الكاتب في تعامله مع الزمان والمكان الروائييْن أسلوباً يتراوح بين "تعويمهما" حيناً، وتحديدهما حيناً آخر؛ ذلك أنه إذا كان أطّر أحداث الفصل الأول زمانياً في أواخر التسعينات، ومكانياً في مدينة نواكشوط، فإننا لا نعلم على وجه الدقة متى ولا أين تم اختطاف "اسلم عربيه" و"وصيفتها"، كما أننا لا نعلم أيضاً الزمان ولا المكان الذي سُلِّمت فيه لتكون خادمة لدى أحد الشيوخ التقليديين.
أما من ناحية السرد فنلاحظ أن الكاتب زاوج بين السرد البسيط للأحداث والسرد المركب؛ إذ نجده أحياناً يبدأ بقصة معيّنة في فصل معيّن ويستكملها في فصول لاحقة، دون أن يعتمد في ذلك الخطيّة الزمنية والسردية، كما نجده أحياناً أخرى يلجأ إلى الخطيّة السردية، وخاصة في بعض الفصول الوسطى والأخيرة.
يتعرض الكاتب بجرأة ـ زائدة كما يراها خصومه ـ إلى ممارسات العبودية التي كانت سائدة في المجتمع التقليدي، ودور الفقهاء في ممارستها وترسيخها، وتلاعبهم بالفتوى لمصالحهم الآنية والشخصية واحتكارهم للتواصل مع السماء، في أسلوب قد لا يخلو حيناً من مبالغة تحوّل العمل ـ برأيي ـ من نص أدبي شفاف ورقيق، إلى حكم قانوني يُدين مجتمعاً كاملاً..!
ومع ذلك كله تبقى هذه "العناقيد" الأدبية الجميلة، محاولة جادة وجريئة سيكون لها ما بعدها في عالم الرواية الموريتانية، نأمل أن تتبعها أخريات تحرِّك الراكد من ثقافتنا وتاريخنا، وتعطينا صورة مركَّبة وشفافة عن ماضينا الذي ما زال ولن يزال يُلقي بظلاله على حاضرنا المفعم بالتحديات، والذي ينبغي ألاَّ يُخجلنا بقدر ما يدفعنا نحو مستقبل واضح المعالم نتصالح فيه مع ذواتنا وأنفسنا.
هذا عمل جاد وجريء.. سنسمع أصواتاً تنتقده؛ بل وتندِّد به؛ لأنه وضع اليد على مكمن وجعنا التاريخي والثقافي والاجتماعي.. باختصار إنه نحن.