وبين جلستى المحكمة، طولِعنا في قناة محلية بأن الشانئ الأبتر يعيش محنة، كمحنة الجعد بن درهم، وعبد الله بن المقفع، في نبرة كأنها توحي بنوع تعاطف معه، أو تبرئة له، أو دفاع عنه!! فهل كان إذن مظلوما مضطهَدا؟!!! وهل كان الجعد وابن المقفع بريئين من الكفر والإلحاد، فامتُحنا ظلما وبغيا وعدوانا؟
ألا يستحق من كذَّب القرآن، ونفى عن الرب صفاتِه العُلى، ومن عظَّم بيت النار، وهينم بالمجوسية، أن يُنزَل بهم أشدُّ العذاب والتنكيل، وأن تضرب أعناقهم، وتُسحب جثثهم إلى حُفَرهم مذءومين مدحورين؟
وثالثة الأثافي الجمع بين شيخ المفسرين، تاج المؤرخين، خاتمة السلف، وقدوة الخلف، وبين الجعد المعطِّل، وابن المقفع الزنديق، وتشبيهُ المثبور ابنِ مخيطير، في ما ادُّعِىَ له من المحنة، به ـ أيضا ـ في محنته وبلواه!!
نعم. لقد امتُحن ابن جرير، وضيِّق عليه، وحوصر في بيته، ومُنع التدريسَ، ظلما؛ وكان عالما مجتهدا تقيّا نقيّا!
وكُرّم المثبور، ودوفع عنه، وانتصَرت له جهات كثيرة أجنبية ومحلية، وكان ظالما مرتدّا جاهلا! فكيف تستقيم المقارنة؟
كان على قناتنا المحترمة أن تميز بين الخبيث والطيب، وأن ترجع إلى تراجم الرجال في كتب الطبقات والسِّيَر، وأن تزن العبارات، وتحْسِن المقارنات.
فما كان لها أن تشبّه الشانئ الأبتر بشيخ المفسرين، أو حتى بابن المقفع الأديب؟
هلا اكتفت القناة بحشره مع سلفه الجعد، الذي ورث شِرْعتَه ومنهاجه؟
ولو كانت حدود الشرع مُقامة، وأحكامُه نافذة، وبالمسلمين قوة ومنعة، وللتربية الإيمانية والدعوة الحكيمةِ وجودٌ، ما كان للشانئ الأبتر أن يُقدِم على ما أقدم عليه. ولكنا في عصر توانى فيه كل منا وتقاعس عن مسؤوليته، وقصّر كلٌّ في الأمانة التي نيطت بعنقه، وأصبح تعليم الدين تلقينا جافا لا يلامس شَغاف القلوب، فانفصم ما بين العلم والعمل من وثيق الصِّلات، واشتغل أكثر الناس بالدنيا، والتكالب على الحطام، والتزلف للحكام، وظهر تقديس الأشخاص، والغلوّ فيهم أحياء وأمواتا، إلى حد التأليه والعبادة أحيانا، وتفرَّق الدعاة والعلماء أيادي سبا، فابتعدت المجتمعات عن مشكاة الوحي، وأنوار النبوة، وألق الحق والهدى، فضعف الدين في النفوس، وانتشرت الخرافات، وعمت الجهالات، ووجد الأعداء مدخلا للغزو الفكريّ، فأجهزوا على ما بقى من دين وخلق.
فلا تعجَب ـ والحالة هذه ـ أن وُجد من بني جِلدتنا وممن يتكلم بألسنتنا، طاعنٌ في الدين، أو مستهزئ بالمرسَلين.
لقد كان الدين قويا في الصدر الأول، عزيز الجانب، منيع الحمى، يذود عن بيضته الأمراء والعلماء، قبل عامة الناس، فما كان يجترئ مخذولٌ على انتهاك حرمته إلا عوجل بالقتل. واليوم صار كلأً مباحا، وموردا العالمُ فيه والجاهلُ شَرَعٌ، فيُدلِى فيه كلّ من هب ودبّ بدلوه، باسم حرية الفكر والتعبير!
وتالله إنها لفتنة عمياء، وداهية دهياء، أن يقول كلّ امرئ ما يشاء، ويكتبَ ما يشاء، في أعظم المقدسات، وآكد الحرُمات. إنها فتنة الديمقراطية اللخناء التي تتيح لكلّ امرئ ما يحلو له من دين ومبدإ وتصرف وتعبير. فلقد أتاحت الإلحاد، والطعن في الرب سبحانه، وفى دينه ورسله وكتبه، وهى التي عنها صدرت الرسوم الساخرة، والصور الفاجرة، وإلغاءُ الشرائع السماوية، والفصلُ بين الدين والحياة...
وهى التي ضمِنت المساواةَ الكاملة بين الرجل والمرأة، وأباحت تزاوُجَ المثليِّين، وتعاطَي المسكرات والبِغاء جِهارا نهارا... فإنا لله وإنا إليه راجعون.
***
يتواصل، بإذن الله عز وجل.
الشيخ إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيدي