بالرغم من الوعيد، والتهديد الصريح الذي أصدرته لجنة تسيير صندوق دعم الصحافة الخاصة في موريتانيا، بحرمان كل مؤسسة صحفية تنشر ما يزعج الهيئة، أو أحد أعضائها، أو يزعج النظام بشكل عام، رغم ذلك، إلا أنني قررت على بركة الله التعبير عن رأيي، وقناعتي، إيمانا مني بأنه لا شيء يستحق أن أقبضه ثمنا للتخلي عن قناعتي، حتى لو منحوني مبلغ 200 مليون كاملا، وانسجاما مع قناعتي دائما أود أن أسجل الآتي:
أولا: أنا شخصيا لست ممن يتخندقون إلى جانب طرف معين في الصراع الذي يقسم الجسم الصحفي حاليا، فجميع الأفرقاء إما أصدقاء أعزاء لي، وإما أشخاص لا أعرفهم شخصيا، لكن تجمعني وإياهم مهنة المتاعب، وأحتفظ بانطباع طيب عن الجميع، والموقف نفسه ينسحب على أعضاء لجنة الصندوق المحترمة، أقول هذا حتى لا تفهم اللجنة الموقرة هذه الأسطر على أنها "إساءة" فترتب عليها ذلك الوعيد..!!.
ثانيا: مصادرة صلاحيات جهات سيادية..
من المعلوم أن أي دولة تقوم على عدة سلطات: تشريعية، وتنفيذية، وقضائية، ويسمون الإعلام سلطة رابعة، ومعلوم كذلك أن محاسبة الأفراد، والمؤسسات على أفعالهم، وأقوالهم هو من اختصاص القضاء، فلو أن معلما، أو أستاذا، أو طبيبا ارتكب جريمة السرقة مثلا، أو الكذب، فلا يجوز لوزارته أن تقطع راتبه معاقبة له على ذلك الجرم، بل يستلم راتبه كاملا، وأمره أمام القضاء، ليقرر – بعد المحاكمة العادلة - عقوبته، حسب جرمه، وبما تنص عليه القوانين، أما إن كان الأمر يتعلق بمجرد انتقاد رئيس الجمهورية برأي، أو منشور، أو حتى سبه، فالأمر عائد إلى الجهات المتضررة من ذلك السب، لتقرر العفو، أو تحريك الدعوى، ولا يحق لأي جهة أخرى في الدولة – حتى لو كانت لجنة الصندوق - أن تلعب دور المحامي المدافع، والقاضي المقرر للعقوبة، والسلطة التنفيذية التي تنفذها ضد هؤلاء.
ثالثا: ضبابية النص...
يقال دائما إن المعايير، والشروط يجب أن تكون واضحة الدلالة، وغير قابلة للتأويل، حتى تكون عادلة، فمثلا: قد ينشر أحدهم كلاما بحق لجنة صندوق دعم الصحافة، فيعتبره عضو في اللجنة إساءة، بينما يراه عضوا آخر إطراء، وثناء، في حين قد يصنفه عضو آخر على أنه مجرد رأي شخص عادي، فالحمولة القدحية للكلام مسألة نسبية جدا، فكيف ستتصرف اللجنة في هذه الحالة؟؟
ونفس القاعدة تنطبق على الإساءة لسمعة البلد، والإضرار بمصالحه، وتهديد الوحدة الوطنية، فكلها عناوين مطاطة، قابلة للتكييف حسب رغبة المـُكيف، فمثلا وصف رئيس الجمهورية بأنه فاسد، مفسد، مستبد، دكتاتوري، هذا قد يعتبره البعض موقفا سياسيا من حق أي مواطن، تماما كما من حقه أن يصف رئيسه بأنه عادل، ومصلح، وديمقراطي..
رابعا: تطبيق مفهوم المخالفة..
يقول أهل المنطق إن نفي الشيء إثبات لضده، والعكس صحيح، ويقول أهل الأصول إن مفهوم المخالفة يقتضي ذلك، فإذا كانت لجنة صندوق دعم الصحافة اعتبرت أن من يسيء على رئيس الدولة، أو على لجنة الصندوق، أو أحد أعضائها يتم حرمانه من الدعم، فهذا يقتضي أن من يمدح رئيس الدولة، أو يتغزل بلجنة الصندوق يحصل على حصة إضافية مقابل ذلك، نعم.. المنطق يقول ذلك، وهذا منطق لا يستقيم...
خامسا: مبدأ الدعم المشروط..
إن الدعم المالي إذا كان مشروطا بشروط مسبقة لا يعتبر دعما، وإنما يسمى ابتزازا، أو تمويلا مقابل خدمات معينة، أو هو شراء ولاء، ومواقف، فلا يمكن مثلا للدولة أن تشترط على المعوقين أن يكونوا من الموالاة حتى يستفيدوا من الدعم الاجتماعي، ولا على الفنانين، والرياضيين مثل تلك الشروط، كما أن ربط الاستفادة من الدعم بالتحكم في الخط التحريري للمؤسسة الصحفية هو محاولة مكشوفة لوضع اليد على الصحافة الخاصة، وتأميمها، ولا يمكن أن يقبلها أي صحفي يحترم مهنته، حتى لو اضطرته الفاقة، والعوز إلى إغلاق مؤسسته، أو انتظار الغاز ..!!.
سادسا: المعاقبة بسبب النشر..
من أهم القرارات التي اتخذها نظام الرئيس ولد عبد العزيز، ويفتخر بها هو شخصيا دائما هو أنه ألغى الحبس في قضايا النشر، ومعلوم أن من حق المؤسسات الصحفية المستقلة أن تستفيد من الدعم العمومي، وإذا قامت لجنة الصندوق بسلب هذا الحق من أي مؤسسة بسبب نشرها لموضوع معين لا يعجب اللجنة، تكون اللجنة بذلك مارست "العقوبة بسبب النشر"، وخالفت سياسة رئيس الجمهورية العامة...
سابعا: حقيقة الدعم..
على الجميع أن يعلم أن مبلغ 200 مليون هو دعم عمومي من ميزانية الشعب، صادق عليها البرلمان على أن تـُصرف للصحافة الخاصة، وليست هبة شخصية من مسؤول في الدولة، أو جهة معينة، حتى يحق لها أن تضع شروط الاستفادة منها حسب هواها، كما أن لجنة تسيير صندوق دعم الصحافة الخاصة هي لجنة أُنشئت للإشراف على توزيع هذا الدعم حسب معايير شفافة، وعادلة، وليست لجنة من أجل صرف الدعم حسب ما تقرره هي، تعطي من تشاء، وتمنع من تشاء، وإلا لكان ذلك عطاء من لا يملك لمن لا يستحق.
ثامنا: الخطأ الفادح...
لقد اجتهدت اللجنة الموقرة في التحذير من الإساءة للنظام، ومتعلقاته، وفرضت اللجنة احترامها، وتقدير أعضائها – بنص البيان-، لكن البيان لم يذكر على الإطلاق المعايير التي ستعتمد عليها اللجنة لمنح زيد كثيرا، ومنح عمرو قليلا، أية معايير، فالشفافية تقتضي نشر المعايير ليحاسب الناس أنفسهم، وحتى نبتعد عن منطق، وروح المثل الشعبي القائل: "ال اتول شي ظاكو".
هذه بعض الملاحظات التي أردت أن أبديها، وأختم بالتأكيد أنني لا أستهدف اللجنة بسوء، وأحترم أعضاءها، كنت كذلك قبل أن يصبحوا أعضاء في اللجنة، وما زلت، ليس ذلك من باب تبرئة النفس، أو الحرص على عدم الإقصاء من الدعم، فأنا على يقين بأن هذه المعايير المائعة لن تجد طريقها للتطبيق، لأنها في حد ذاتها غير عملية، ولا هي قابلة للتنفيذ.