من مصائب الدهر ومن نكبات الحياة أن ترى من هو مستعد للتضحية بنفسه من أجلك يقاسي آلام الحياة، وشظف العيش، وهم الرزق، والخوف من الخلق، يعيش جل حياته كما يعيش الذليل الغريب. يحول بينه وبين سعادة الظرف حاجز لا تبصره، يعد أيام حياته بصعوبة، تهيج أشجانه وتكاد تخنقه العبرة في أول الشهر، وتغتاله صعوبة الحال والحسرة وسط الشهر، قبل أن تنفرج أساريره فرحا مع نهاية الشهر حين يقبض راتبه الزهيد، والذي لا يكفي إلا بضعة أيام لأسرة تتكون- في الغالب الأعم- من محيط ممتد على طول الأصل وعرض الظئر. تبصر من هذه حاله وتلك صفته وتقف عاجزا على أن ترد له بعض جميله إليك.
مما يشق على النفس أن يكون أغلب من يمتلك هذه الصفات لا تعرف ملامح وجهه ولا اسمه ولا وسمه ومع ذلك تسيطر عليك الشفقة عليه إلى هذا الحد بل حتى إنه لا توجد أي رابطة تربط بينكما غير بقعة أرض يجمعكم العيش عليها.
ستسأل أيها القارئ عن من أتحدث وعن أي جميل أحكي. أنا أتحدث عن من سخروا أنفسهم ليوفروا لك الأمن في وطنك يصبح أحدهم يصول ويمسي يجول في طول البلاد وعرضها بحثا عن أي خطر يهدد أمنك واستقرار بقعتك ليتلقاه عنك بصدر عارٍ.
هنا أتحدث عن صغار الجنود الذين نذروا أنفسهم للدفاع عن هذه الأرض، وسخروا أنفسهم لحماية الحدود والدفاع عنها. هؤلاء الجنود الذين شاهدت بعيني رأسي اثنين منهما يستوقفان السيارات القادمة إلى نواكشوط. حيث استوقفنا جنديان وركبا معنا سيارة بعد أن توسلا من يوصلهما لأنهما لا يمتلكان رصيدا ماليا يمكنهما من قطع التذاكر. وجوههم واجمة مكتئبة كالليلة الظلماء خجلا من موقفهم، كأنهم تعرضوا لصدمة من صدمات القدر أو نازلة من نوازل القضاء بحيث لا يستطيعون لها دفعا ولا يجدون عنها محيصا. بؤس الحال جعلهم يقفون تحت لهيب شمس حارقة في يوم قائظ يستجْدُون محسنا لا يعرفون متى ولا كيف سيأتي.
تألمت للأمر شديد الألم خاصة في ظل العبث بمخصصات المؤسسة العسكرية من طرف كبار الضباط من ذوي البزة الحسنة والرتبة العالية والنياشين الكثيرة، الذين يمنحون أموال هذه المؤسسة للمتاجرة والمرابحة بها من طرف أبناء بعض النافذين حينا، أو يبذرونها على ملذاتهم ونزواتهم الخاصة حينا آخر. وعلمت أن الضمير الأخلاقي وحده هو الذي يوجه الإنسان إلى سواء السبيل إذا ألهمته العناية الإلهية ذلك.
حَزَّ في نفسي كيف لهؤلاء أن يرتضوا حياة البائسين المستضعفين؟ أليس لهم حق الكرامة البشرية التي تمنعهم من موقف كهذا؟، أليس من حقهم على المؤسسة التي ينتمون إليها أن توفر لهم وسيلة لنقلهم من وإلى عملهم؟ ألا يشكل وضعهم هذا وصمة عار على الدولة التي يزورها القريب ويمر بأرضها البعيد ويرى الوضع البائس الذي يعيشه جنودها حين يقفون على الطرقات يتسولون من يقلهم؟
إن هذا الوضع صادم ومؤلم، وهو وضع يجب علينا جميعا أن نطالب بإنهائه فورا فلا يمكن أن تحتفل المؤسسة العسكرية الموريتانية بيومها المجيد وأبناؤها يعيشون ظروفا سيئة حد البؤس.
قبل أن تحتفل الدولة بالعيد الوطني للمؤسسة العسكرية الذي يوافق اليوم السبت 25 نوفمبر، يجب أن تعمل جاهدة على صيانة سمعة هذه المؤسسة والمحافظة على كرامة أبنائها خاصة الجنود وذوي الرتب المتدنية حتى يكون لاحتفال كهذا طعم ومعنى.
يجب أن نقف نحن كشعب وقفة رجل واحد من أجل أن تكون مؤسستنا العسكرية قوية، ولن تقوى هذه المؤسسة ما لم يكن أفرادها يحظون بمستوى معيشي يصون لهم عرضهم ويحفظ لهم قدرهم، يحصلون من خلاله على التقدير اللازم والاحترام المطلوب.
من المفترض أن يكون اليوم يوم فرح بالنسبة لنا في موريتانيا حيث نرى مؤسستنا العسكرية تحتفل بعيدها الوطني ولكنه أيضا يوم وقفة مع النفس لكي يتم فيها تقييم واقع هذه المؤسسة وحال أبنائها من أجل ترسيخ وتعزيز النجاحات وتفادي الإخفاقات في قادم الأيام.
أردت من خلال هذه السطور أن أنبه على حال هؤلاء الشرفاء المغاوير من أبناء مؤسستنا العسكرية لعلي أجد من يستمع أو يفهم أو يقدِّر. وحتى هذه اللحظة نبصر لندرك أن أمل أبناء المؤسسة العسكرية فيها كاذبا ورجاؤهم فيها خائبا ونتمنى أن لا يستمر هذا الوضع طويلا.