أثار إعلان الرئيس الموريتاني محمد عبد العزيز عن تغيير قاعدة العملة من عشرة إلى واحد أو بعبارة أخرى حذف صفر من الأوقية بدء من يناير المقبل، موجة كبيرة من الردود بعضها يدعي أن هذا القرار سيرفع من سعر صرف العملة ويؤدي إلى حل للمشكلات الاقتصادية التي تعاني منها البلاد، وذلك من خلال استعادة الأوقية لمكانتها في المعاملات المالية وحماية القدرة الشرائية للمواطن، بينما يرى البعض الآخر أنه مقدمة لانهيار خطير في قيمة العملة، والحقيقة أن ما ذهب إليه أصحاب الرأي الأول مجرد أمنيات لن تتحقق بحذف صفر أو صفرين من الأوقية، كما أن ما ذهب إليه أصحاب الرأي الثاني لن يكون نتيجة لحذف الصفر وإنما لمتغيرات اقتصادية تراكمية وليست وليدة اللحظة.
هل ترتفع قيمة الأوقية؟
إن نزع صفر أو عدة أصفار من الأوقية لن يؤدي إلى أي نتيجة إيجابية ولن يساهم في زيادة قوة العملة إلا من الناحية "الوهمية" حيث سيتم إيهام الناس أن سعر صرف الأوقية أصبح أقوى إذ بات بإمكان الفرد على سبيل المثال أن يحصل على دولار واحد بقيمة 35.5 أوقية بدلا من صرف 355 أوقية مقابل الحصول عليه، والحقيقة أن هذه خديعة ظاهرية فقوة العملة تتأتى من قوة الاقتصاد ولا يمكن الرفع من قيمة أي عملة عن طريق نزع صفر أو اثنين ولو كان الأمر كذلك لنزعت كل الحكومات أصفارا من عملاتها للتحول إلى عملات قوية!
ولعل من الضروري هنا توضيح أنه من أجل الرفع من قيمة أي عملة يجب تبني سياسات مالية فعالة تعمل على تحسين المؤشرات النقدية والمالية المتمثلة في حجم احتياطي النقد الأجنبي ونسبة الدين الخارجي من الناتج الإجمالي الخام، بالإضافة إلى وضعية الميزان التجاري ونسبة التضخم إلى غير ذلك من المؤشرات التي تعكس الوضعية الاقتصادية والمالية لأي بلد.
إن المراقب للوضع الاقتصادي الموريتاني يمكنه ببساطة الجزم بأن اتخاذ هذا الإجراء في الظروف الاقتصادية الراهنة لن يؤدي مطلقا إلى أي تحسن على مستوى الواقع الاقتصادي المعاش حيث النسبة المرتفعة لمعدلات البطالة إضافة للتردي المستمر في مستوى المعيشة والخدمات، والارتفاع المستمر لمعدل التضخم، وبالتالي حتى ولو أقدمت الحكومة على حذف صفرين بدلا من واحد وأصبح الدولار في حدود 3 أواق فلن يقود ذلك لتحسن حقيقي في سعر الصرف ولا في الواقع الاقتصادي لأن هذه القيم لم تنتج عن معطيات اقتصادية واقعية وإنما نتجت عن إجراءات شكلية تهدف لإيهام الناس أن سعر صرف العملة قد تحسن.
وفي هذا الإطار من المهم الإشارة إلى التوضيح الذي أصدره محافظ البنك المركزي الموريتاني عبد العزيز الداهي في افتتاحية العدد الرابع لنشرة البنك المركزي، والخاص بشهر نوفمبر، والذي أكد خلاله أن أهم مزايا القرار الأخير تكمن في "تبسيط العمليات التجارية، وزيادة الثقة في العملة، وربح الوقت على مستوى العد والفرز...".
من جهة أخرى يمكن القول إنه لا توجد تداعيات سلبية مباشرة لهذا القرار إذ أن عملية الحذف بحد ذاتها لا تحمل أي مدلول من ناحية القيمة، مع أن حذف الصفر وما سيصاحبه من انخفاض في القيم الإسمية لثروة الأفراد قد يؤدي خلال الفترة الأولى إلى إحساس المرء بالفقر فمن كانت لديه مليون أوقية على سبيل المثال ستصبح لديه 100 ألف أوقية، الأمر الذي قد يتسبب في تخفيض الاستهلاك وما لذلك من انعكاس على اقتصاد البلاد بشكل عام، غير أن هذا الشعور مؤقت وسرعان ما يزول.
واقع اقتصادي غير مواتٍ
من نافلة القول التأكيد على أن الظروف الاقتصادية التي تمر بها البلاد غير مواتية مطلقا لتطبيق قرار حذف الصفر، كما أنها تبين بوضوح أن دوافع حذف الصفر من الأوقية لا تتعلق بتبسيط المبادلات التجارية كما هو معلن، وإنما هي محاولة لإخفاء الانهيار الحاصل في العملة والذي يأتي تلبية لشروط المانحين الدوليين.
وكان صندوق النقد الدولي قد أعلن الشهر المنصرم عن إبرام اتفاق مع موريتانيا لمنحها قرضا بقيمة 162.8 مليون دولار على مدى ثلاث سنوات من أجل دعم برنامج الإصلاحات الاقتصادية في البلاد.
وأوضح الصندوق أنه يتعيّن على موريتانيا "تطهير المالية العامة" للدولة لتعزيز قدرتها على تحمّل الديون، وكذا العمل على إرساء "سوق تنافسية للنقد الأجنبي وإطار عصري للسياسة النقدية".
وعرفت العملة المحلية انخفاضا تدريجيا مقابل العملات الأجنبية خلال الأعوام الأخيرة لتنتقل من 299 أوقية للدولار الواحد مطلع العام 2013 إلى 355 أوقية للدولار في الوقت الحالي.
وبحسب معطيات رسمية صادرة عن البنك المركزي الموريتاني فقد فقدت العملة المحلية 13% من قيمتها في الفترة ما بين يناير 2013 ويناير 2016، وذلك تحت ضغط صندوق النقد الدولي الذي طالب بمزيد من نقص الأوقية أو تمييعها بشكل تام وترك تحديد سعرها للسوق.
يشار إلى أن الاقتصاد الموريتاني يتصف بالهشاشة، وقد أرهقه انتشار الفساد على مدى عقود، وعدم نجاعة السياسات الاقتصادية والمالية المتبعة، وبحسب آخر الإحصائيات فإن الدين الخارجي للبلاد تجاوز 5 مليار دولار مع احتساب الديون السيادية الكويتية التي لم تتم تسويتها حتى الآن، وبذلك تسجل مديونية موريتانيا الخارجية حوالي 107% من إجمالي الناتج المحلي الخام، لتتخطى معدلات الاستدانة على مستوى القارة الإفريقية.
من جهة أخرى توضح الأرقام الواردة في التقرير السنوي الصادر عن البنك المركزي الموريتاني أن الاحتياطي الأجنبي للبلاد وصل مع نهاية العام المنصرم 824.5 مليون دولار أمريكي أي ما يعادل 5.4 شهر فقط من واردات السلع والخدمات.
فيما تظهر معطيات حكومية أخرى وصول هذا الاحتياطي لستة أشهر من الواردات خارج القطاع الصناعي.
ووفقا لبيانات حديثة صادرة عن صندوق النقد الدولي فمن المتوقع أن ينخفض احتياطي موريتانيا من العملة الصعبة مع نهاية العام الجاري إلى 0.7 مليار دولار بدلا من 0.8 مليار نهاية العام المنصرم.
وتأتي توقعات صندوق النقد الدولي نتيجة لاستمرار تباطؤ النمو العالمي وانعكاسات ذلك على تراجع المواد الأولية، وهو الأمر الذي يعكسه تراجع عائدات البلاد من قطاعي المعادن والنفط.
وفي سياق متصل توقع محافظ البنك المركزي في مؤتمر صحفي خصص لشرح إجراءات تغيير قاعدة العملة من عشرة إلى واحد أن يصل معدل التضخم مع نهاية العام الجاري 2.7%.
وفي ظل هذه المعطيات الاقتصادية يمكن القول إن عملية حذف الصفر من الأوقية الموريتانية ما هي إلا عملية استباقية للتستر على الانهيار المتوقع للعملة المحلية، ولعل مما يؤكد ذلك إعلان البنك المركزي عن وجود ورقة نقدية من فئة 1000 أوقية ضمن العملة الجديدة وهو الأمر الذي يضاهي إصدار ورقة بقيمة 10000 آلاف أوقية من العملة المتداولة حاليا، وكما هو معروف فإن اللجوء إلى إصدار أوراق نقدية بقيمة أكبر مما هو متداول من تجليات انخفاض قيمة أي عملة.
إذن فعملية حذف الصفر هي محاولة لإخفاء الانخفاض المتوقع للعملة حيث أنه بحذف صفر من الأوقية سيكون من السهل على المواطن البسيط تقبل انخفاض قيمة الأوقية مقابل النقد الأجنبي، إذ لو افترضنا على سبيل المثال أن سعر صرف الدولار مقابل الأوقية ارتفع بنسبة 50% فإنه وبعد نزع الصفر سيصبح بإمكان المرء الحصول على دولار واحد مقابل 52 أوقية بدلا من 532 أوقية، وبالتالي من الناحية النفسية يكون الشعور أخف وأبسط لأن الفرق بين 35 (سعر الصرف بعد نزع الصفر) و 52 أوقية ليس بالكبير، مقارنة بالفرق بين 355 و 532 أوقية، وهكذا فإن في الأمر خديعة ظاهرية قد تنطلي على المواطن البسيط لأول وهلة، بيد أن هذا الانطلاء لن يستمر لوقت طويل تحت وقع زيادة الأسعار وتفاقم المعاناة الاقتصادية للمواطنين.
عودة الصفر مسألة وقت
تلجأ الدول والحكومات إلى سياسة حذف الأصفار من عملاتها لتقليل تكاليف المبادلات التجارية، وتسهيل العمليات الحسابية والحد من تضخيم الأرقام، كما تعد وسيلة للتخفيض من حجم الكتلة النقدية في اقتصاد معين، بيد أن نجاح هذه السياسة مرهون بتطبيق إصلاحات اقتصادية تفضي إلى استقرار اقتصادي والتحكم في مستويات التضخم، وتهيئة البيئة الاقتصادية لعملية الحذف وإلا فإن الأصفار سرعان ما تعود جراء ارتفاع معدلات التضخم ونقص القيمة الشرائية للعملة.
وتعتبر ألمانيا أول دولة عمدت إلى شطب الأصفار من عملتها وذلك في العام 1923 بعد انخفاض قيمة المارك في الحرب العالمية الأولى ليصبح الدولار الأمريكي الواحد يعادل 700 مليون مارك ألماني، بعدها قررت ألمانيا حذف 14 صفرا، ثم تلتها فرنسا التي حذفت 6 أصفار من عملتها، غير أن هذه الدول حذفت الأصفار بعد تطبيقها لمشاريع تنموية ضخمة، وسياسات مالية ناجحة أدت إلى التحكم في نسب التضخم وتحسين مؤشرات اقتصادياتها بشكل عام.
وفي هذا الإطار يندرج إقدام تركيا على حذف ستة أصفار من عملتها في يناير من العام 2005 بعد التراجع الكبير في معدلات التضخم الذي عانى منه الاقتصاد التركي، كما يأتي القرار ثمرة للإصلاحات الاقتصادية التي بدأتها تركيا منذ 2001 عندما تعرضت لواحدة من أسوء الأزمات الاقتصادية في تاريخها، حيث نجحت تلك الإصلاحات في تحقيق الاستقرار الاقتصادي ومحاصرة التضخم والتحكم فيه، وبالتالي كان لقرار حذف ستة أصفار من الليرة التركية أثره الإيجابي على الواقع الاقتصادي بشكل عام.
في المقابل فشلت بلدان أخرى في تطبيق هذه السياسة أبرزها زمبابوي التي حذفت ثلاثة أصفار من عملتها في العام 2006 ولأن عملية الحذف لم تأت في وضع اقتصادي مستقر، واصل معدل التضخم ارتفاعه الجنوني لتضطر الحكومة إلى حذف عشرة أصفار أخرى في العام 2008 قبل أن تواصل معدلات التضخم ارتفاعها في ظل أزمة اقتصادية أدت إلى إلغاء العملة المحلية واستبدالها بالدولار الأمريكي والراند الجنوب إفريقي، وذلك بعد أن وصل معدل التضخم 230%.
وتعتبر السودان كذلك من بين البلدان التي فشلت في تطبيق سياسة نزع الأصفار حيث قررت السلطات حذف صفرين من الجنيه السوداني في العام 2007 لكن مؤشر التضخم بقي في ارتفاع مستمر ولم تتحسن قيمة العملة.
ولأن المؤشرات المالية توضح بجلاء عجز السلطات النقدية عن احتواء معدل التضخم فإن هناك مخاوف حقيقية من عدم نجاح هذه السياسة في موريتانيا واستمرار تراجع قيمة الأوقية وبالتالي يكون ظهور مزيد من الأصفار بالأوقية مسألة وقت.
تكاليف غير مبررة
يتوقع أن تكلف عملية حذف الصفر من العملة الموريتانية واستبدالها بعملة جديدة خزينة الدولة أموالا طائلة سيتم إنفاقها على طباعة العملة الجديدة وسك القطع النقدية وهو أمر قد لا يكون له ما يبرره، خاصة أن العملة الحالية لا تطرح مشاكل كبيرة في السجلات المحاسبية ولا تطرح صعوبة في المعاملات أي أن الفرد لا يحتاج إلى حمل كومة كبيرة من الأوراق المالية من أجل قضاء معاملاته اليومية.
ولا تتوقف تكاليف القرار عند طباعة العملة الجديدة بل تتجاوزها لتشمل تكاليف تغيير الطوابع الجبائية والبريدية.
إن قرار حذف الصفر وما يترتب عليه من تغيير للعملة سيقود لصرف أموال كبيرة في عملية تمثل خسارة مالية، بينما تواجه البلاد مشاكل البطالة والغلاء المعيشي وتردي الخدمات، بالإضافة إلى مخاطر الجفاف بعد موسم أمطار يعتبر هو الأسوأ خلال السنوات الأخيرة، الأمر الذي يطرح عدة تساؤلات حول الحكمة من صرف هذه الأموال في عملية استبدال العملة رغم أولوية صرفها في مشاريع البنى التحتية وغيرها من المشاريع الأكثر إلحاحا، خاصة أن تبديل العملة بعد نزع صفر منها لن يغير من قيمتها الشرائية الحقيقية، كما أن البلاد خرجت للتو من استفتاء شعبي حول تعديل الدستور وتغيير العلم والنشيد كلف خزينة الدولة ستة مليارات من الأوقية، فهل تكون لحذف الصفر من العملة الموريتانية آثار إيجابية على واقع المواطن البسيط كما تراهن الحكومة أم أن الظروف الاقتصادية غير المواتية ستقف دون ذلك؟