يبدو "اترمب" متحمسا وهو يقرأ واقع العالم الإسلامي من تلك اللوحة المحيِّرة بما فيها من فراغات وعناصر متنافرة وألوان غير منسجمة، فالفراغات ترمز إلى غياب أمثال الفاروق، وصلاح الدين، والملك فيصل، وصدام، وبذلك تفقد الأمة ذلك الْهَدْيَ والسَّمْت الذي يكفي لفتح القدس أبواباها وتسليم مفاتيحها طائعة، وكذا الهمة والعزم اللازم لنفض غبار الضعف المتراكم على الأمة أزمانا، وكذا الجرأة على وقف إمداد مصانع الأعداء الذين يحمون وجوه الغاصبين وظهورهم، بل وحتى أمثال (صدام) من الذين يستطيعون إيصال رسائل السلام إلى إسرائيل بلغة الصواريخ، فتلك هي اللغة المفهومة، وذلك هو الأسلوب البيلغ!.
فالفراغ الذي تركه غياب هؤلاء وأمثالهم يرمز إليه الرسام الموهوب بتلك المسافات الفاصلة بين عناصر تلك اللوحة!
أما تنافر العناصر فيرمز به الرسام إلى وصف حالة العناصر المكونة لتلك اللوحة، والتي تتراوح بين الشلل الكلي والعجز العارض، مرورا بالشلل الجزئي والمرض والهزال والضعف، وكل هذه الأعراض من النوع الْمُعْدي، فهل نتوقع بعد ذلك أن يألف بعضهم بعضا؟! بل وصل الحال إلى أن بعض المشلولين كليا أو جزئيا يرى نفسه صحيحا مُعافًى، ويسعى للانفصال كليا عن بقية العناصر؛ لأنه قد ألف مشلولين من جنسه، ويسعى سعيا حثيثا ليعيش بينهم، فإن لم تسعفه الآثار التاريخية المحيطة به، ولا الذاكرة، ولا الموقع في تحقيق ذلك، بدأ باتخاذ خطوات يقطع بها يوما بعد يوم خطوة نحو أمنيته!
أما الألوان غير المنسجمة في لوحة ذلك الرسام الموهوب فترمز إلى اختلاف الشعارات المرفوعة من العناصر المكونة لتلك اللوحة، والتي من الواجب المفترض عليها أن تكون جسما واحدا، يترجم قناعاته وأهدافه في شعار واحد، لكن الواقع للأسف غير ذلك، والرسام الموهوب لا بد أن يكون أمينا صادقا، فيجسد الواقع لا الواجب المفترض، وهو يجد أمامه شعارات قومية، وأخرى جهوية، وأخرى طائفية، وألوانا أخرى، فيضطر إلى إقحام ألوان غير منسجمة في لوحته مكرها؛ لأنه يدرك أنها بذلك تكون مخالفة للذوق صادمة للشعورر والحس!
وهذه الشعارات الملونة ذات الرائحة النَّتِنَة المنَفِّرة هي التي حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الإعلان بها قولا، حين قال: "دعوها فإنها منتنة" فكيف بالعمل بها فعلا!
والعجز العارض الذي اتصفت به بعض تلك العناصر قد يكون عائدا لسبب ذاتي: أي أن بعض تلك العناصر قد أهمل بعض الوسائل المتاحة، فعجز عن أداء دوره، وقد يكون ذلك راجعا لسبب خارجي: أي أن المطلوب منها في الوقت الراهن أكبر من طاقتها الموزعة بين علاج عناصر كيانها، ومدافعة عدوها، فالتخلص من العجز إذن يحتاج لبعض الوقت.
أنَّى هذا؟ من عند أنفسنا!
تلك إذن هي اللوحة كما قرأها "اترمب" وعلى ذلك بنى قراره الذي اختار توقيته بعناية، بناء على تلك المعطيات.
فإن جاء قارئ آخر، أعمى البصر، مظلم البصيرة، مريض القلب، فلم يبصر ذلك الفراغ، ولا التنافر في العناصر، ولا قلة الانسجام في الألوان، فقال هذا واقع أمة قد قطعت خطوات في طريق التقدم، وحازت من مظاهر الحضارة قدرا معتبرا، فلما ضج السامعون في وجهه مستنكرين، أخذ في الاستدلال لقراءته، فلم يجد إلا أن يقول: ألم تدخل تلك الأمة المرسوم واقعها موسوعة (جينيس) مرات ومرات!
قلنا: نعم قد دخلت موسوعة (جينيس)، لكن من الأبواب الخلفية المخصصة للشكليات، بل وكان دخولها على ظهور مملوكة لأمم أخرى، وذلك في أهم الإنجازات التي دخلت به تلك الموسوعة! فليس لها إذن من ذلك الدخول إلا الاسم! فهل تجد قراءة ذلك الأعمى من مصدق؟ إلا من كان في مثل حاله!
الوجه الإيجابي لقرار (اترامب):
لا تحسبوا قراءة "اترامب" وقراره شرا محضا، فقد يقصد العدو التَّشَفِّي والشماتة، فيفعل أو يقول ما يلفت انتباه عدوه إلى مَكْمَنِ النقص وباب الخطر، فيستيقظ النائمون، وينتبه الغافلون، وتنكشف عورات المخادعين.
الأهداف مراتب:
الأهداف مراتب بعضها يسبق بعضا، ولا يصح القفز إلى هدف دون تحقيق الذي قبله، فذلك يؤدي إلى فوات الهدفين، وضياع الجهد والوقت، وهذا ما توجبه السياسة الشرعية التي علمها الله نبيه صلى الله عليه وسلم، كما حدث في قصة الأعراب المتخلفين في الإيمان والعمل، فلما طَمِعوا في المغنم هموا بالقفز إلى هدف الجهاد متجاوزين هدف الإيمان، وهو الهدف الأول والأعظم، والذي لا يحصل ما بعده من الأهداف إلا بتحقيقه؛ فلذلك أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرد أولئك الأعراب إلى الترتيب الواجب بين الأهداف – الإيمان ثم الجهاد - فلما كان الإيمان أمرا قلبيا لا يعلم إلا بأثره العملي: مُنِعَ الأعراب من الجهاد حيث يكون الدافع إليه هو حب المغنم، ودعوا إلى الجهاد حيث يظن أن الدافع إليه هو الإيمان الصادق، قال تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ...} [الفتح/ 11] ثم قال تعالى بعد ذلك: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [ الفتح/ 15-16].
لا خوف على الإسلام!
الإسلام في أمن تام؛ إذ هو نور الله والله متم نوره، وإنما الخوف على أنفسنا أن نَتَوَلَّ ونتقاعس فيبادر غيرنا، فيكون له العز والكرامة، ويكون لنا الذل والمهانة!
قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}.