يوشك أن ينعقد مؤتمر حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية الثالث، ويوشك كذلك أن يغادر الرجل القوي جميل منصور قمرة قيادة هذا الحزب التي تربع فيها وعليها حولا كاملا من الزمان كان مسرحا للعديد من الأحداث السياسية الفارقة والصعبة بل والمضطربة والمفصلية أحيانا، ويوشك كذلك أن يفد مؤتمرو هذا الحزب إلى القاعة الكبرى بقصر المؤتمرات للمرة الأولي وهم لا يعرفون من سيكون الرئيس القادم لحزبهم...
صحيح أنه خلال المرتين السابقتين لم يك أحد على علم تام بمن سيكون الرئيس القادم لكن كفة ولد منصور في المؤتمرين كليهما كانت راجحة وأصواته طاغية...
يترك ولد منصور اليوم دفة القيادة ليتلمس له مكانا في بعض المقاعد الأخرى... لكنه يغادر حزبا متماسكا بمنتسبين يصلون المائة ألف أو يزيدون وبهيئات إدارية مكتملة ونخبة في المقدمة يشكل اختيار واحد منها للقيادة تحديا بقدر ما يمثل سرورا وغبطة لحزب يمتلك هذا الكم من القيادات والعناصر الرائدة..
بيد أن الصورة ليست بتلك الوردية التي يعتقد البعض فهي ليست كلها بلون واحد، فثمة تحديات ضخمة واختلاف وجهات نظر وثمة تباين في المواقف وصل بالبعض في الفترة الأخيرة إلى مقاطعة هيئات الحزب أو الكف عن الظهور، وثمة استقالة هنا وتباين وجهات نظر هناك ونقد هنالك...
ويدرك قادة تواصل اليوم أن ما يجمعهم هو حزب سياسي وليس حركة فكرية أو تنظيما نخبويا لذا يعرف الجميع أن على الرئيس القادم أن يكون قادرا على مخاطبة آدوابه والقرى النائية في الداخل وفي موريتانيا الأعماق قبل أن يكون قادرا على مخاطبة المثقفين وأصحاب الرأي وقادة المجتمع فتلك لغات متعددة عرفت صناديق الاقتراع تواصل أن لا بد من إجادتها والتحدث بها مليا، وأن لغة الفكر ومخاطبة المشاعر الإسلامية قد تكون أساسا قويما وركنا متينا لكنها وحدها لا تملؤ صناديق الاقتراع في مجتمع لا تزال القبيلة والجهة والمادة للأسف الشديد تلعب فيه المؤثر الأول والأوحد تقريبا...
وليس تواصل وحده في الساحة سواء أكانت تلك الساحة وطنية أو إقليمية أم دولية... ومن سيكون الرئيس القادم لتواصل عليه أن يخاطب الجميع وأن يفهم هذا الجميع...
فمن سيكون الرئيس القادم لحزب تواصل إذا...؟
يبرز اليوم تياران في هذا المنحى أحدهما يحصر القيادة في النخبة القريبة من مركز القيادة الحالي ذات التجربة الطويلة والحضور القوي والدراية التامة بكواليس الحزب ويكاد ينحصر الأمر في الثلاثي (شيخاني – غلام – الحسن) بعد أن ابتعد القياديان السالك ولد سيد محمود والمختار ولد محمد موسي عن ذات المنطقة التي لا يزال الثلاثي آنف الذكر يتواجد بها، لظروف تخصهما كل على انفراد.
وتيار آخر يريد "مسح الطاولة" من القديم وتسليم القيادة لأحد أفراد الجيل الجديد الصاعد، ويعلل أصحاب هذا الاتجاه رأيهم بأن التباين في وجهات نظر الفريق القائد الآن للحزب وصل في بعض الأمور إلى مستوى يعرقل انسيابية عمل الحزب وتألقه وأن اختيار أي من القيادات السابقة سيكون تقوية لفريق دون آخر، بيد أن الأمر وإن بدا وجيها في بعض جوانبه فإن مبدأ إنزال القيادات بـ"الباراشوت" ليس أمرا مستساغا لدى الغالبية من أبناء الحزب ولربما من بعض الشركاء والساحة المحيطة بالحزب بشكل عام... لكن للشباب أحيانا رؤى وحسابات أخر.
لذا كثيرا ما يتردد خيار الثلاثي السابق فهل سيكون الرئيس من بين هؤلاء؟
الشيخان ولد بيب:
قيادي إسلامي متمرس ينبؤك رأسه المشتعل شيبا في هذا الأمر بسنوات تجربته الطويلة، ينحدر من الشمال وينتمي كالرئيس جميل – على عكس معظم القادة الآخرين – إلي إحدى القبائل العربية المقاتلة، عرفه سكان مقاطعة دار النعيم حين قاد بلديتهم لسنوات عدة أجاد فيها لغة الأحياء الفقيرة وعاين عن قرب أنات وآهات هذا الشعب المسكين المغلوب على أمره ثم لم يلبث أن خرج منها مرفوع الرأس نظيف الكف كما شهد له بذلك منافسوه وخصومه قبل ذويه وأنصاره ومحبيه... الأقدر من بين منافسيه على فهم اللغة الفرنسية والتحدث بها، وذاك أمر له دلالته في القدرة علي التواصل مع نخبة شركاء هذا الوطن الذين في الغالب يكون التحاور معهم والتواصل عن طريق تلك اللغة... يقدمه أنصاره على أنه الأقدر على خلافة ولد منصور ويرون فيه قوة الشباب ورزانة الشيوخ...
الحسن ولد محمد:
ينتمي الحسن ولد محمد إلى احد أجيال التيار الإسلامي الوسطى التي انتمت للصحوة مطلع تسعينات القرن المنصرم لكن انضباطه ونشاطه ودماثة خلقه وتوافقيته المعروفة عنه حملته إلي الصفوف الأمامية للتيار الإسلامي عبر مراحله المختلفة (ما بعد 94)، ومع مقدم الإصلاحيين الوسطيين ومن بعدهم حزب تواصل كان ولد محمد قد نضج واشتد واستوى عوده داخل الصف الإسلامي لذا لم يجد كبير عناء في حجز مكان له في الصفوف الأول من قادة الحزب، كما أنه يتربع على عشرية من السنين في دفة قيادة بلدية عرفات ذات الثقل السكاني الكبير والرمزية التاريخية للإسلاميين، عرف ساكنة عرفات عن قرب، لا يزال يسكن بالإيجار رغم السنوات العشر التي قاد فيها البلدية الأكبر في الوطن، تمكن من هزيمة مؤلمة للنظام الحالي الذي حشد كل قوته في البلدية خلال الانتخابات المنصرمة ليزيح الرجل عن مقعده، لكن سكان تلك البلدية كان لهم رأي آخر في عمدتهم الشاب الوديع المبتسم المتصالح مع الجميع، رشح الإسلاميون الحسن لقيادة المجموعة الحضرية إثر الانتخابات البلدية الأخيرة لكن المال السياسي والتحالفات الغامضة بين النظام وأحزاب المعارضة المحاورة بددت حلم التواصليين في قيادة تلك الهيئة الهامة، وهو اليوم زعيم المعارضة الديمقراطية، ينحدر ولد محمد من إحدى المجموعات الاجتماعية الوافرة في الحزب، وهي بكل تأكيد نقطة قوة له إذ آلاف الشباب الذين تجمعهم به آصرة الدم والقربى ممن لا يمتلكون انتماء إيديولوجيا أو "مصلحيا" من الطبقة الوسطى من التجار ورجال الأعمال لن يكون اندفاعهم في الحزب وبذلهم فيه حين يكون رئيسا له كيوم يكون آخر رئيسا له، وهو أمر سيكون من المكابرة أو المثالية المفرطة إغفاله أو إهماله بشكل تام... لكن ولد محمد ينتمي لفرع القبيلة المتواجد في منطقة الجنوب (ولاية اترارزة) وهي نقطة ضعف في نظري، إذ إن الغالبية الصامتة في الحزب راغبة في نفي الشبهة التي طالما روجت لها المخابرات وتلقفها بعض شيعة وأنصار الحزب من تحكم أبناء الجنوب فيه، خصوصا في ظل تربع مقاطعة الطينطان على رأس مقاطعات الوطن من حيث عدد منتسبي الحزب، ومحافظة الحزب على نائبي الطينطان وكرو وعمدة بلدية النعمة في أقصى الشرق الموريتاني...
لا يبدو الرجل راغبا البتة في قيادة الحزب كما يقول في الفترة القادمة ويقدم بين يدي ذالك حججا مختلفة وظروفا متعددة...
محمد غلام ولد الحاج الشيخ:
يحلو لكثيرين وصف الرجل بأنه صقر الحزب ورأس حربته، وبأنه مقاتل شرس لا يخاف في الحق لومة لائم... كما عرفته الشاشات الوطنية والدولية منافحا ومدافعا عن الهم الوطني والفكرة الإسلامية، لم يلهه الجواز الدبلوماسي ولا الوظيفة الكبيرة في البرلمان عن أن يركب البحر إلي فلسطين التي كثيرا ما ألهب مشاعر محبيه عن الحديث عنها...
قدم أداء برلمانيا متميزا خلال السنوات الأخيرة، وساءل وزراء كثر في ملفات شائكة ومعقدة، وفي مقدمتهم وزراء المالية والعدل والصيد والتجارة والإسكان وغيرهم...
ينحدر ولد الحاج الشيخ من أقصى الشرق الموريتاني رغم انتمائه في الأصل إلى منطقة الوسط ورغم ثقافته "الجنوبية" العالية وعلاقاته المتشعبة مع مثقفي وعلماء وشخصيات المنطقة الجنوبية...
مرشح قوي لرئاسة الحزب لكنه رافض بقوة للترشح ويدافع عن قناعته تلك بقوة واستبسال ولن يعدم الرجل المفوه والمقنع حججا يقدمها بين يدي سائله عن أسباب إصراره على عدم قبول الترشح في حال ما لو قدمته شريحة من المؤتمرين...
وبين مسح الطاولة والإبقاء على أحد رموز الدائرة الضيقة التي تدير أمور الحزب يبرز تيار آخر يؤمن بمطلب الشباب في ضرورة التغيير الكامل لكنه يبقي على مطلب توافر الخبرة والقدرة في المرشح القادم لقيادة الحزب
والحقيقة أن القائد القادم لتواصل يحتاج كل أو جل الصفات المنثورة في الشباب وفي القادة آنفى الذكر، فمن لحزب تواصل بمن يجمع كل أو جل تلك الخصال؟
لست أدري بالطبع من يكون ذاك الفتى الذي يجمع كل أو تلك الصفات، ولست أدري كذلك لم كل ما فكرت في الأمر قفزت إلى ذهني صورة الدكتور محمد محمود ولد سيدي، ولمن يعرفه، فالرجل يمتلك ذات جهة غلام وبعض علاقاته وذات مجموعة الحسن الاجتماعية وتوافقيته، ويتحدث اللغة الفرنسية أحسن – ربما – من ولد بيب كما يمتلك تمدرسه وشهادته... ويمتلك من الصفة الإسلامية والعلم الشرعي ما يسكت بعض شركاء الساحة الإسلامية (من السلفيين وأشباه السلفيين) الذين كثيرا ما اتهموا الحزب بالميل نحو العلمانية والتفريط في الطابع الإسلامي للحزب...
صحيح أن الرجل ليس بالخطيب المفوه، كما أنه قدم أداء برلمانيا باهتا خلال الدورة الحالية، لكنه رجل يكاد يكون مقبولا من الجميع ويمتلك تجربة سياسية تزيد على ربع القرن وله أنصار ومحبون كثر من بين المؤتمرين وغير المؤتمرين...
دخل ولد سيدي إلي السياسة من الباب الناصري الذي تربص فيه حينا قبل أن يراه "آفلا" ويرى أن التيار الإسلامي هو الأكبر وبأنه تياره المفضل فهو لا يحب "الآفلين"...
اختار الإسلاميون مطلع التسعينات ولد سيدي العائد من المغرب والمفعم بالشباب والحيوية والنشاط والأناقة لقيادة اللجنة الشبابية "النسخة المعدلة" من نادي مصعب بن عمير الذي كان قد حل ساعتها من قبل سلطات وزارة الداخلية هو وأخوه نادي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إثر أزمة الإسلاميين الأولى...
هاجر ولد سيدى رفقة ولد منصور وآخرين إلي حبشة "بروكسل" حين اشتدت وطأة بحث أجهزة ولد الطائع عنهما كما كان رجل جمعية المستقبل القوي وأحد البرلمانيين الذين حملتهم أصوات التواصليين والتواصليات إلى قبة البرلمان الحالي، تخرج على يديه آلاف الشباب الجامعي وناقش مئات الرسائل وأشرف على مثلها من البحوث...
له شعبية طاغية في صفوف الشباب الإسلامي "رجالا ونساء"...
كان نصيب الإسلاميين من الوزارة بعد مؤتمر داكار حقيبتين وزاريتين فلم يروا أصلح للتعليم العالي الذي وكل إليهم من د. محمد محمود ولد سيدى الذي ترك – كما يقولون – بصمات واضحة رغم ضيق ذات الصلاحيات وقصر المدة الزمنية.
فهل تكفي هذه السيرة الذاتية لحمل الرجل إلي الكرسي الذي يلملم ولد منصور اليوم أوراقه لمغادرته مساء الأحد القادم...؟
شخصيا... لا اعرف ولكني أتوقع...