من المعلوم أن الصورة النمطية لغالبية لأحزاب السياسية في بلدنا لا تعدو كونها أسماء بلا دلالة، ومشروعات بلا رؤى، ورؤساء بلا مرؤوسين، لكن الاستثناء هو الحزب المؤسسي الذي يجسد كل تلك المتطلبات؛ حزب "تواصل"، الذي انصرمت عشريته الأولى في التأسيس لـ"المشروع الجامع"، وانقضى مؤتمره الأخير كأنجح حدث سياسي في البلد، مثَّل سابقة من نوعها في التناوب على إدارة المشروع / الفكرة عكس الصورة الطاغية عن أحزاب الأسماء والحقائب!
لقد كان مؤتمر حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية "تواصل" الأخير حدثا مفصليا في تاريخه، حيث انتهت مأمورية الرئيس المؤسس والرمز القائد، ليبدأ فصل جديد من تاريخ الحزب بقيادة رُبّان جديد يسعى للرسوّ به على جادة "المستقبل الواعد". حدثٌ يمكن اختزاله في خمسة مشاهد من مشاهداتي، تُفصح بجلاء عن المؤسسية ومدى تجذّرها، والروح الديمقراطية ومدى شيوعها في وجدان منتسبي وفاعلي وقيادات الحزب.
المشهد الأول: في الوقت الذي حدده المنظمون للحضور كانت الجماهير التواصلية قد تقاطرت بشكل منقطع النظير في جو من الاحتفاء بهذا الحدث المفصلي، حيث عبروا من خلال المسارات المرسومة بانسيابية أحيانا وبصعوبة أحايين أخرى بسبب الزحام الجماهيري الذي يجمع بين المؤتمرين والمدعوين والصحافة والجمهور العام، لكن ذلك كله تمت إدارته بصرامة بالغة من طرف المنظمين الذين يرجع إليهم تقدير الظروف واتخاذ ما يلزم لسير الحفل كما رسم.
المشهد الثاني: لقد كان تأخر بعض القيادات في الولوج إلى القاعة الرئيسية سببا في شغل جميع المقاعد ما جعل زعيم المعارضة ورئيس لجنة تنظيم المؤتمر وآخرين يفضلون الجلوس في الممرات على أن يوجِد لهم المنظمون مقاعد بتنازل من بعض الحضور، لكن المنظمين أصروا على تطبيق ذلك بصرامة لإخلاء الممر لدواعٍ تنظيمية، ولم يكن من بد من امتثال النظام! في تجل عميق من تجليات التواضع والمسؤولية والانضباط.
المشهد الثالث: لقد كانت ورشات المؤتمر لنقاش نصوص الحزب ورشات تتسم بالهدوء والانضباط والانفتاح على كل الآراء الوسطيّ منها والمتطرف، والمبخّس منها والمثمّن؛ حتى أن النبرة تعلو أحيانا في موقف حساس لينبري صوت معاكس يدحض نظرية المخالف دون أن ينجرّ عن ذلك أي تنابز أو شحناء، وتتلقى اللجنة المشرفة كل تلك الملاحظات بالاحتواء المطلوب. ولقد اتسمت النصوص الحزبية بتطور ملحوظ عن نسختها السابقة بحضور مفردات من قاموس الوحدة الوطنية حول الرق وضحاياه، والتمييز الاجتماعي، والطبقية، وإنصاف ضحايا الظلم. والحديث بصراحة دون كناية عن كل ذلك.
المشهد الرابع: في عرف "تواصل" يمنح لكل مرشح فرصة إلقاء كلمة، ويفتح باب التعقيب من قبل المناصرين والمناهضين على حد السواء (وذلك في حدود الموضوعية وعدم التجريح والخوض في الأمور الشخصية وفي غياب المرشحين)، لكل الحق في كلمة أمام الجمهور. وقد حددت اللجنة المنظمة ثلاث دقائق لكل فرد، (تحسب بالثانية)! ويمنع أي تجاوز من قبل أي كان، مناصرا لأي كان، حتى ولو حاول إتمام "شطر جملة" بعد انتهاء الوقت المحدد. والمفارقة أن كلمات المرشحين تخلو من أي "دعاية" أو تلميع لأنفسهم، ويغيب فيها أي تسويق لرؤاهم أو "برامجهم" لقيادة الحزب، على العكس من ذلك يرى كل منهم أنه ليس "صاحب المرحلة" وأن زملاءه أولى منه وأجدر!
المشهد الخامس: لقد كان مشهد كلمات المرشحين هو المشهد الأكثر استثناءً من بين هذه المشاهد؛ انسحب المرشح محمد غلام ولد الحاج الشيخ أول ما برز اسمه من بين المرشحين لرئاسة الحزب، ثم ظهر المرشح الحسن ولد محمد ليطلب من مناصريه عدم التصويت له وذلك بمبررات وجيهة، ثم تلا ذلك المرشح الفائز محمد محمود ولد سيدي ليتحدث بتواضع مختلف! وما لبث الأمر كذلك حتى عاد المرشح المنسحب وتراجع عن قراره، وفي هذه اللحظة عاد وهَج المنافسة الذي كان يتطلع إليه المؤتمرون، وانتهت المنافسة بالمفاجأة الكبرى بفوز الدكتور محمد محمود ولد سيدي على بقية المرشحين وبفارق كبير عن أقرب منافسيه الشيخاني ولد بيبه الذي كان مرشحا قويا لرئاسة الحزب. لقد ولج الرئيس الفائز القاعة من جديد يضع يده على جبينه وكأنه يقول بتواضع ملفت: ما كان يضيركم لو أعفيتموني من هذا المنصب!
يتجلى من كل تلك المشاهد كيف أن حزب تواصل، كرس واقعيا الرؤى الإسلامية السامية في التعاون والتناصح والتكاتف والتواضع، وكيف أن منتسبيه تشرّبوا معاني الأخوة، وتمثلوا التعاطي برقي، يسعون لتعزيز المؤسسية وتصحيح ما حاد عن المَحجّة، ناظمهم في ذلك كله المرجعية الإسلامية، ووسيلتهم الشورى والديمقراطية.