لا ينكر أحد اليوم حجم التحدي الذي يواجه العرب مجتمعات ودولاً قطرية ومنظمات إقليمية.
لقد كان واضحاً للجميع من هم أعداء العرب والعروبة، وكانت الإجابة العجلى والمبتسرة دوماً أمريكا وإسرائيل، اليوم أصبح الكل يدرك حجم التداعي والتكالب على الإيقاع بهذه البقعة، الجديد أن الغطاء انكشف عن نوايا الجيران الأقربون في الدين والثقافة والجغرافيا.
ولم يعد للتحليل السياسي الموضوعي أن يفرق بين التحرك الطوراني التركي أو القومي الفارسي أو الأسطوري الصهيوني وهي كلها أيديولوجيات ثلاث -على تفاوت خطورتها- تتمسح بالدعاوي الدينية, وهي تحركات تروم تعظيم مكاسبها على حساب المصلحة العربية، وتحقيق أعلى قدر ممكن من الفائدة في لحظة الانكسار والدمار الذي تعيشه منطقتنا العربية، وإن بتحالف بالفعل أو القوة بين هؤلاء الغرماء الثلاث؛ لإلحاق هزيمة منكرة ونهائية -إن أمكن بالعرب-، كلٌّ تحركه مصالحه ودعاويه ومخاوفه وآماله الخاصة به.
لكن من وجع الأقدار أن يساعد ويساند بعض العرب، ودون وعي، توجهات هذه القوى المحيطة ضد نفسه وضد أمته. فلم تعد المصالحة العربية في ظل هذه الأجواء كلمة تقال، ولم يعد بعث الشعور بالهوية القومية المشتركة خياراً من بين أخرى، ولم يعد غير التوحد والتضامن والنظر إلى المستقبل استراتيجية.
هناك دول تناضل بل تجازف اليوم من أجل تلافي الأخطاء وسقي الذماء المتبقية من الروح والحقيقة العربية الدينية (السنية) والقومية والتاريخية، ولكنها تواجه تحالفات إقليمية شرسة، وتخاذلاً دولياً من حلفاء المصالح المشتركة، وقطاراً عربياً عرباته متثاقلة، وشعوب ضائعة بفعل اليأس والحرب الإعلامية المقيتة.
هذه الدول وعلى قلتها- مصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة وبعض شقيقاتها - تواجه مهمة تاريخية معقدة، تتمثل في تعويض حالة الفوات والفراغ الذي أحدثته سياسات الفرقة العربية تاريخياً، وهي بالضرورة لا بد أن تخوض حربا بمعنى الكلمة على جبهات ثلاث: جبهة الوعي، وجبهة الفكر، وجبهة السلاح.
ذلك أننا نعاني اليوم من غياب استراتيجية عربية مشتركة ووسائلها المناسبة لتقوية العرب في ميزان لعبة الأمم، والتي من أبجدياتها توفر الإرادة لبناء مستوى ضروري من التماسك، اقتصادياً وأمنياً وديمقراطياً وعسكرياً ودبلوماسياً, في حين أن الضرورة الملحة تحتم علينا بناء وزن خارجي يتلافى هذا التفاوت المريع في الأحجام والأدوار.
وخصوصاً، أن الاستمرار في التقوقع داخل الحدود القطرية لكل بلد لن تمثل حلاً، مهما كانت التدابير الحكومية لكل قطر على حده. فلا أمل للعرب إلا أن يكونوا أمة كما أراد لهم الدين والجغرافيا والتاريخ والتحديات والمصالح ومنطق العصر, إذ لا بد من حياة عربية مستأنفة وجديدة تسودها قيم الجماعية والتضامن الفعلي والتشاور والتحاور، والتنسيق وتعبئة الموارد.
ولابد لنا أن ندرك حالياً –وبشكل مستعجل واستراتيجي- حجم التطورات التي يشهدها النظام الدولي والإقليمي من حولنا، وخاصة القوى الإقليمية ذات التوجهات الجديدة وطبيعة علاقاتها التحالفية فيما بينها ومع الغرب، أو لناحية الإنهاكات التي طالت القطب الأوحد –الولايات المتحدة-، وعودة بروز قوى دولية تسعى لإيجاد موطئ قدم مصلحي لها على أرضنا -روسيا-، وما سيعكسه ذلك على طبيعة العلاقات الدولية وشكل النظام الدولي في المرحلة القادمة، وبالتالي على كينونتنا كمجتمعات وكدول.
هذه المتغيرات تحتم علينا بذات الأهمية المستعجلة، أن نعيد قراءة خريطة تحالفاتنا وأولوياتنا ومصالحنا، بالاستناد إلى مقدرات القوة التي ما زلنا نمتلكها، والتي ما زال بالإمكان توظيفها في إطار علاقاتنا التحالفية –التقليدية أو المستحدثة- لحماية مصالحنا وفرض شروطنا، قبل أن تدفع القوى الخارجية إلى تجريدنا منها، وتفكيك ما تبقى من أمتنا.
على العرب اليوم تلافي أوضاعهم وصياغة استراتيجية واضحة محددة وفي إطار جماعي تعتني بأسئلة محددة –دون تفصيل– وهي أسئلة تروم ترتيب البيت العربي من جديد.
وعليه، فإن التساؤل يبدأ من البحث حول أفضل وأكفأ السبل لتصعيد وتيرة المدافعة مع القوى المعادية المباشرة وغير المباشرة حتى نوقف نزيف الخسارة؟ وهو سبيل هام لقمع التطلعات التوسعية على حساب التاريخ والهوية والمصالح وجغرافية الأمة العربية النابعة من الجوار، وكيف نطور رؤية واضحة وذات أثر للحفاظ على ما تبقى من الوجود؟.
ليتوسع التساؤل حول كيفية تجديد سؤال الوحدة أو التضامن؟ في ظل تطورات نوعية تعصف بمفاهيم الزمان والمكان والحدود، في هذه اللحظة من التطور الإنساني. وسيظل السؤال المنهجي والمنطقي سؤالاً حاضراً وماكراً يتعلق بالكيفية والأولويات؟.
(عورة الحدود، عورة التفتت، عورة الجهل، عورة الفقر):
وما المانع اليوم من خلق الحدود الدنيا للتضامن في أشكاله الدفاعية والاقتصادية والثقافية والفنية التقنية؟ وكيف نجعل من أشواق الحرية والتغيير دعوة للعقل البناء والحراك السلمي الضاغط بدل الجنون والتدمير؟.
لا يمكن أن تكون الديموقراطية في العالم آلية للتقدم وإدارة الخلاف والاختلاف، في حين تكون عندنا دعوة مفتوحة للحرب، لذا علينا العمل على تحرير العقول ومن ثم وسائلنا. نحتاج لصفقات وصفقات للتطبيع مع واقعنا، من أهمها صفقة تاريخية بين الأمة وحكامها.
وكيف نجعل من الدين عامل بل أساس وحدة وازدهار، وليس العكس؟ وكيف نقرأ ونطبق المبادئ الدينية في إطار من الفهم والتأويل الصحيح؟ أي كيف نقيم صناعة تدين سمح وموحد مزدهر ومقاوم؟.
وكيف نخلق نكيراً عاماً يكون تلقائياً في نفوس الناس (صناعة الضمير)، يمج الكراهية والظلم وتجاوز القانون؟
ويا له من سؤال كيف نزاوج بل نصالح بين العلم والقرار العام؟
ويظل السؤال الأخير والكبير هو سؤال “الإرادة”؟.
وأخيراً، ليس صحيحاً أن مشاريع ورؤى النهوض غير موجودة، وليس صحيحا أننا لا نتوفر على الوسائل للنهوض الصحيح هو غياب الإرادة الجماعية وعدم التبني الجماعي لفكر الوحدة والنهضة والإحياء، وعدم شعور بعض الدول في المنظومة العربية بتهديد الفناء الذي يتربص بها، فظلت المشاريع الكبرى حبيسة الأدراج، مشاريع أفراد وأحزاب وجماعات لم ترتقِ إلى مستوى مشاريع أمة، وهنا أهمية بل ومشروعية الدعوة لمأسسة فكر الوحدة والتجديد وبناء أنظمة لتبيئة التفكير الجماعي والعمل والتخطيط والإنتاج.
إن الحديث عن الوضع العربي اليوم لا يمكن مقاربته من خلال جزئيات بعيدة عن الكليات الكبرى المتعلقة بالوحدة والتضامن وبناء ريح الأمة.
وقديما قال الشاعر العربي:
ولو كان هماً واحداً لكتمته
ولكنه هم وثان وثالث.
ذلك ما على العرب فعله، وعلى القوى الإقليمية أن تستمع لنادي العقل والمصلحة، فالجغرافيا عنيدة، والأيام متداولة، عليها أن تختار بين الكف عن المواجهة وانتهاج سياسة حسن الجوار وعدم التدخل في القضايا العربية والخروج من الأرض العربية المحتلة، وأن تنفض يدها من توتير الأوضاع في منطقتنا، وأن تعيد لواجب الأخوة والاتحاد الإسلامي اعتباره.