إذا كانت العادات قد رسخت لباس الرجال للدراعة والنساء للملحفة في بلادنا حتى ارتبط هذان الزيان بمجتمعنا أشد الارتباط فإن هنالك أزياء أخرى كانت من تقاليدنا العريقة ومن ثقافتنا الأصيلة مثل: آفروال والسبنية والگلمز والكساء وأحايكْ وغيرها. وسأحاول أن أستعرض بعض ذلك في هذه الحصيلة:
أحايك والكساء أزياء موريتانية منذ القرن السادس عشر
ذكر التاجر والناشر البرتغالي فلانتيم فرنانديز الذي زار بلادنا سنة 1505 أي بدايات القرن السادس عشر أن الكثير من سكان هذه الصحراء الشنقيطية في ذلك الزمن كانوا يبلسون الجلود، ومنهم من لا يجد من تلك الجلود إلا ما يغطي به بعض الأماكن الخاصة من بدنه؛ مما يعني أن الناس كانوا في فاقة شديدة، وأن اللباس وخاصة منه القماش والمنسوجات كان نادرا. ويذكر فرنانديز من جملة ما ذكر البضائع التي يأتي بها البرتغاليون (لموريتانيا) تتكون من الستائر وألوانها الألوان العادية كالأزرق والأحمر، وهذه الستائر قماش من القطن وبأنواع شتى كالبرنس والكساء وأحايكْ بأنواعه وخصوصا الدكالي وهو أجودها نسجا، ثم الحنبل، والبرود، و"البدم" وهو سترة قصيرة بلا أكمام.
وأحايك أو الحايك قطعة من القماش ترتديه المرأة لتستر رأسها ووجهها وسائر جسدها. أما البرنس أو البرنوس فمعطف طويل من الصوف يضم غطاء رأس مذبب وليس به أكمام. وفي الشبكة صورة متداولة لأمير الترارزة اعلي ولد محمد الحبيب المتوفى سنة 1886 وهو يرتدي برنسا.
وكان التاجر البرتغالي فرنانديز وصل إلى بلادنا مبعوثا من طرف ملك البرتغال مانويل الأول (Manuel Ier d'Aviz)، وهو المشهور في الأدبيات الأوروبية بمانويل الثري، وهو الذي بنى الإمبراطورية الاستعمارية البرتغالية. وكان يمتلك مرسيين اثنين هامين أحدهما في حوض آرگين ببلادنا والثاني عى شواطئ غانا قرب العاصمة آكرا.
آفروال والسبنيَّه.. أزياء من القرن الثامن عشر
في كتاب "مروگ الحرف"، وهو أول تاليف باللهجة الحسانية كتبه أحد الشناقطة في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، أن الموريتانيين كانوا يبتاعون من الأوربيين لباسا وأقمشة من بينها: آفراويل اندر والسبنيَّه الحمراء وسمبورس. وآفْرَاوِيلْ انْدَرْ مضافة إلى تلك المدينة السنغالية الشاطئية التي كانت مرتبطة سياسيا واقتصاديا ببلادنا. وآفراويل مفردها آفروال وهو قطعة قماش مربعة طولها ستة أذرع في عرض ثلاثة تقريبا تتخذه النساء مآزر كما يستعمل لباسا. وأصل اللفظ من كلام أزناگه وهو "أَفَرَأْچْ" وجمعه أفَراچِنْ ومع الاستعمال تحولت الجيم المعقودة لاما وهذا كثير في كلام أزناگه. وكانت آفراويل مدينة اندر السنغالية من أجود الأقمشة. والسبنية لفظ من كلام أزناگه كما في كتاب فيديرب عن البربرية في موريتانيا. وهي منديل من الحرير لونه أحمر وفيه تصاميم زاهية الألوان مشرقتها. وتضعها البنات يوم الزينة ويعقد طرفها في رقبة البنت ويدلى الطرف الثاني إلى جهة ظهرها. وقد ورد ذكر السبنِيَّه في أغنية شعبية موريتانية قديمة من أغاني "بنْچَه"، وورد فيها ذكر مدينة اندر السنغالية ولازمة تلك الأغنية أو ظهرها: "ياللالَ شوفُ اسْبَانَ انْدَرْ" ومنها قولهم: "كِلْهَ أكْفَرْ من ثَوْرْ أحْمَرْ". وبمدينة روصو فرقة غناء شعبية أصيلة تعرف باسم "اسبينيَّات" تصغير سبنيَّه. ويقولون في اللهجة الحسانية: "جاتْ اتْجِرْ اسْبَنَاهَا"، وهي كناية عن قمة الأناقة في اللباس وجماله، حيث كانت السبنيه خاصة ببنات الأغنياء في المجتمع الموريتاني القديم. ويقولون: "ناشر لك اسْبَنَايَ" أي مستعد لإكرامك ومتهيئ لاستضافتك. أما سَمْبُورِسْ فقماش أحمر ولعله اسم الشركة التي كانت ينتج هذا النوع من القماش.
الگلمز: زي شنقيطي حاضر في القرن التاسع عشر
ذكر المختار بن حامدن في كتابه الأغاني والمغنين أن المطربة عيشه بنت إبراهيم بن أعمر بن اعلي وركان كانت مطربة مشهورة من مطربات القرن التاسع عشر، وكانت بارعة في أدائها الفني، كما كانت على مكانة عالية من الثقافة والتدريس، فكان لها طلاب تدرسهم القرآن والعلم. ومما ذكر ابن حامدن في كتابه هذا، والذي سيخرج هذه الأيام بتحقيقي، أن عيشه بنت اعلي وركان هذه كانت تسافر إلى مواسم التجارة الأوروبية قرب الشاطئ الأطلسي، وكان أمراء الترارزة وخفراء السفن يكرمونها ويغدقون عليها الهدايا، وكانت تنظم حفلات غنائية في تلك المواسم. وكثيرا ما لجأ إليها أصحاب المظالم فأنصفتهم ممن أخذ حقوقهم. وكان لها گلمز تضعه على رأسها، تمييزا لها وإشهارا. والگلمز وجمعه الگلامز هو القبعة توضع على الرأس، واللفظ أمازيغي وأصله أگلموس وجمعه إگلماس. وقد ذكر امحمد بن أحمد يوره الگلمز في قطعة شعرية جميلة:
ألَاحبذا "انْكُمْبُلَّ" والدارُ دارهُ ۞ وما أنا في دار "المُخَيْنِزِ" راغزُ
فلله أيامٌ لَدَيْهِ تَسَلفتْ ۞ لَمَنْ رَجَعَتْ مناَّ إليهِ لفائزُ
فما تشتهيهُ الأذنُ للإذن قارعٌ ۞ وما تشتهيهِ العينُ للعينِ بارزُ
ونلعبُ "أسياگًا" فـ"يفطرُ" بعضنا ۞ و"يخنِز" طولَ الدهر مَنْ هو "خانزُ"
وثَمّ نواويرُ الربيع كأنها ۞ جماجمُ أشياخٍ عليها "الگلامزُ"
الشدة والغلاء من أسباب لبس الجلود
وفي سنة 1943 وقعت في بعض مناطق موريتانيا شدة وغلاء وجفاف ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، ولم يجد الناس ما يلبسون فسمى الناس ذلك العام عام الشدة أو عام الهوفة. وكانت الحرب العالمية الثانية في تلك السنة على أشدها، والفرنسيون، حكام بلادنا، قد جرعتهم ألمانيا كأس الذل ومرارة الهزيمة واحتلت عاصمتهم باريس، فذاق جيشهم الضارب طعم الإهانة، فضاعت أحوال المستعمرات الإفريقية ومن بينها بلادنا. وقد جمعت المقادير على الناس في موريتانيا جفافٌ جارف وموتان في الأنعام وتوقف التجارة فزاغت أبصار السكان وبلغت قلوبهم الحناجر. وقد أدركت بعض كبار السن ممن عرف تلك السنة وأصابته تلك البلوى يتحدث عن أحوال رهيبة تنحبس بها الأنفاس وتشيب لها الولدان، وهي أحوال ما بين جوع ممض وفقر مدقع، فقد عبث الدهر بحياة الناس وجر عليهم كلكله، وكان أكثرهم حظا من يجد جلدا يلبسه إذ شاع العري بينهم حتى صار الشخص لا يسافر إلا ليلا ويظل طيلة يومه متخفيا عن الأعين. وقد قال بعض شعراء الحسانية يصف تلك الأحوال:
الايْدِينْ الثنتيْنْ افذَ العَامْ ۞ ما فيهمْ وَحْدَ مجبُورَ
وحْدَ مدْيورَ من گدامْ ۞ ووحْدَ مديورَ من لورَ
وقد قال المؤرخ العالم المختار ولد المحبوبِ اليدالي في نظمه التاريخي متحدثا عن عام الشدة أو عام الهوفه وما يتعلق باللباس وندرته ذلك العام:
وأخِذَ الأنامُ بالسنينَا ۞ فى عام "واحد مع الستينا"
وكل مسلم به مجهود ۞ ولُبْسُهُ الخِرَقُ والجُلود
وهذه وثيقة من وثائق "عام الشدة" تعود لشهر ديسمبر 1943 عثرت عليها في بعض الكنانيش وهي تشهد لشدة تلك الأوضاع وصعوبتها:
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على من لا نبي بعده
وبعد سلام تام طيب عام إلى من لا زال محمودا بجميع المحامد، ولا خاب من له قاصد. موجبه أننا لا بأس علينا جميعا، وأن ما عندنا من البقر انتهى لبنه، وأن خديجة ليس عليها من اللباس إلا الحولِي الذي أعطيتَه لها، وأن فاطمة عريانة، وأن ضراعتي صارت تتشقق من عند الرقبة والمقاعد فأرسل لي الضراعة التي قلت لي أو واحدة أجد منها، وأرسل لخديجة شيئا تلبسه، وإلا تأتيك عاجلا. وتسلم عليك محجوبه وتطلب منك أن ترسل لها ملحفة، وفاطمة تسلم عليك وأرسل لنا جواب البراوة مع حاملها والسلام. ثلاث عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة عام 1362. (15 ديسمبر 1943).
خاتمة:
هذه إطلالة سريعة يظهر بمقتضاها جانب من أزياء المجتمع الشنقيطي في القرون الماضية لا تروم الاستقصاء والحصر بل تسعى لاستنهاض همم الباحثين الشباب ليتوسعوا في هذا الموضوع مستخرجين لنا ما اكتنته الوثائق وحفظته الكنانيش وتغنى به الأدباء في موضوع الأزياء.