منذ أن ظهرت وسائل الإعلام بطابعها المعاصر ورجالها في صراع مع رجال السياسة، حتى وإن كان رجال الإعلام في أحيان كثيرة رجال سياسة، ويعود التنافر بين الفاعلين في المجالين إلى التداخل بين مجاليهما، وهو التداخل الذي قد يتحول إلى تجاذب، وصراع في بعض الأحيان.
وعلى المستوى المحلي فإن التجربة لم تختلف كثيرا؛ فقد ظل الإطار الحاكم للعلاقة بين الإعلاميين والسياسيين، في الغالب، هو التوتر، المشوب بشيء من عدم الثقة المتبادل.
يمكن أن يقال إن وسائل الإعلام الحكومية ومن يديرونها في البلدان النامية، التي منها بلدنا، ظلت تابعة للسياسة، أو السياسيين، وفي اعتقادي أن هذه الملاحظة مع دقتها لا تكذب القاعدة العامة، وذلك للأمرين التاليين:
1 - أن من يديرون هذه المؤسسات لم يكونوا إعلاميين، ولم يدخلوها بهذه الصفة غالبا، وإنما هم سياسيون وصلوا إلى إدارة هذه المؤسسات بصفتهم سياسيين لتنفيذ برنامج سياسي معين.
2 - أن الإعلاميين في هذه المؤسسات بقيت لديهم دائما تحفظاتهم على التسييس المفرط للمنتوج الإعلامي، وكنا نجد أنفسنا في كل مرة أمام تعبير يكسر الصمت العام الذي يحيط بهذه الممارسة. كما أن هذه المؤسسات، بما فيها الإداريون السياسيون كانوا ينتهزون فرصة كل متنفس من الحرية للعودة إلى جذور الممارسة الصحفية، وأحيانا بسقوف عالية جدا.
لا سياسة بدون إعلام
إن هذه القاعدة هامة للغاية لفهم طبيعة العلاقة بين السياسي والإعلامي؛ فالسياسة في أحد أبعادها المهمة هي خطاب موجه للجمهور، ولا يمكن بطبيعة الحال مخاطبة الجمهور عبر الاتصال الفردي، مهما كان اتساع وقت السياسي، وحجم انتشار أتباعه، وحملة رسالته.
لذا يكون من الضروري استخدام الأداة الإعلامية، التقليدية والحديثة، للتواصل مع الجمهور، وإيصال الخطاب إليه، سواء كان على شكل ترويج لمشروع، كما يقع في الحملات الانتخابية، أو كان على شكل شرح سياسات ومواقف، أو الدفاع عن إجراءات كما يكون في الظروف العادية.
ويمكن القول ؛ إنه لا إعلام بلا سياسة؛ فالعمل السياسي هو المادة الأولى للصحافة بمختلف توجهاتها، وذلك بسبب التأثير المباشر، والدور الذي تلعبه السياسة في حياة الجمهور. كما أن دور الصحافة الرقابي لا يمكن تصوره دون وجود عملية سياسية.
بين الاستقلال والتبعية
في النظرة التقليدية للسياسي إلى وسيلة الإعلام فإن هذه الوسيلة يجب أن تكون تابعة له، ناقلة ما يريد أن يوصله هو إلى الجمهور، وهذه النزعة لدى السياسي ظلت قائمة حتى في الدول التي توصف بأنها متقدمة. ويمكن الاستدارك بأن المسؤولين السياسيين في الدول الغربية مثلا يقبلون بمساحة أكبر من استقلالية الصحافة في الشأن الدخلي، منها حين يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية.
وفي مقابل نظرة السياسي تقف رغبة الإعلاميين في الاستقلال التام عن السياسيين، والتي ترى أن الإعلامي يجب أن يتعاطى مع الشأن العام بعيدا عن أي تأثير من أي نوع، إلا من معايير المهنة التي تقدس الاستقلالية باعتبارها منبع القيم الصحفية.
والحقيقة أنه لا التبعية المطلقة نافعة للسياسي، ولا الاستقلالية المطلقة مفيدة، أو ممكنة في الواقع، وذلك لمجموعة من الأسباب:
1 - إن الإعلام عندما يتبع بالكامل للسياسي يفقد أهم أهدافه، وهو التأثير، لأن طبيعة السياسي أنه يخطئ ويصيب، ويرغب عادة في تقديم نفسه دائما في صورة ناصعة، نظرا لحساسيته تجاه نظرة الجمهور إليه.
2 - إن فقد التأثير ناتج بشكل مباشر عن فقدان المصداقية التي يصعب الحفاظ عليها، في ظل التبعية للسياسي.
3 - أن الاستقلالية المطلقة عن كل طرح سياسي أو فكري، تضر وسيلة الإعلام لأنها تفقدها الزاوية الثابتة التي يمكن أن تنظر منها إلى الأشياء والأشخاص، فلا بد من قيم حاكمة في التعاطي مع الأحداث، تعطي للممارسة الإعلامية دورا في المشروع الوطني الجامع.
4 - أن هذه الاستقلالية المطلقة ليست في طوق البشر، فوعينا يتشكل نتيجة لمجموعة من التراكمات المعرفية، والخبرات الحياتية التي لا يمكن أن ننعزل عنها عند نشاطنا اليومي الذي منه العمل الصحفي. وأقصى ما يمكن للصحفي، أو المؤسسة الصحفية، هو السعي لتحقيق قيمة العدل، والتزام صفة الصدق، فلا تكذب لتلميع من تقف في صفهم، ولا تكذب لتدنيس صورة من يقفون في الصف المقابل.
التكامل أولى
إن المخرج من ثنائية الاستقلال والتبعية هو في نظرة تكاملية إلى الإعلام بوصفه جزءاً من المشروع الوطني الجامع، تناط به مهمة التنوير في إطار ثوابت المجتمع، وممارسة التأثير لصالح هذه الثوابت. وعلى هذا الأساس تبنى سياساته. وسيكون هنا متفاعلا بالسلب والإيجاب مع الفعل السياسي وفاعله. لا تابعا له، ولا نقيضا.
إن أدوارا مثل الإسهام في محاربة الفساد، وتعزيز اللحمة الوطنية، وتعزيز قيم المواطنة، وتوسيع دائرة الحريات العامة، لا يمكن أن تمارس في المجتمع دون إعلام مستقل، وموضوعي، لكن هذا الإعلام لا يمكن أن يمارسها بمعزل عن بقية مكونات المشروع الوطني الجامع، ودون تفاعل ثري معها.
ووفق هذا الطرح يمكن القول إن إعلامنا بحاجة إلى إستراتيجية وطنية تخرجه من الدوران في دائرة مفرغة من التبعية المطلقة من جهة، أو المعارضة العدمية من جهة أخرى. وليس هناك شك في أن ثمة مؤسسات إعلامية وطنية تحاول تلمس هذا الطريق، ولكنها، في نظري، تفتقد إلى مثل هذه الرؤية الإستراتيجية الكلية، وكثيرا ما تنجرف إلى أحد طرفي المعادلة. إضافة إلى أن هذه المؤسسات قليلة إذا ما قورنت بالعدد الوافر الفاقد للبوصلة.