لإن كان نقد السلطة في المجتمعات المتخلفة ذات النظام السياسي المغلق، له أضراره التي يمكن تصورها، مما جعل البعض ينصرف عن محاولة ترشيد القرار وإنارة الرأي العام، بل يكتب دفاعا عن الوضع القائم دون أن يقدم مادة يمكن أن تصاغ منها توصية عملية أو يبنى عليها قرار؛ فإن نقد المعارضة في ذات المجتمعات لا يقل هو الآخر مغامرة عن الأول.
غير أنه ومن منطلق التزام شخصي أحاول اعتبار قول الحقيقة في هذه الفترة الحرجة من تطورنا السياسي فرض عين لا خيارا كفائيا فحسب.
إن الكثيرين اليوم لا يرون بأن الوقت الآن مناسب لنقد الفعل المعارض. ويعود ذلك في اعتقادي إلى تخلف ثقافتنا الديموقراطية وسطحيتها، والتي من مخرجاتها المغالطة اعفاء أعمال المعارضة من النقد؛ بل واعتباره فعلا غائيا تآمريا غير نزيه. على أنني أعتبر أن المؤسسة الأهم في النظام السياسي بعد مؤسسة السلطة هي المعارضة والتي تلي مسؤوليتها مسؤولية السلطة في الفعل العمومي.
بل يمكن الجزم أن سبب ما يعتمل في الجسم السياسي الموريتاني من الأزمات يعود -من بين أمور أخرى- إلى ما نمارسه من التطفيف في النقد؛ حيث أكثر سهام النقد توجه تقليديا للسلطة. وهو وإن كان أمرا مفهوما ومشروعا، الا أنه لا يجوز أن نهمل نقد الأحزاب والمجتمع، متجهمين حقيقة أن الفعل السياسي المعارض هو شريك شرعي ووجه آخر للفعل السلطي داخل النظام بمفهومه الواسع.
لذا لا بد أن نتساءل هنا عن مدى مشروعية الرهان على المعارضة الموريتانية واغفال البحث عن البدائل السياسية الأخرى ونحن على أبواب مرحلة سياسية هامة وحاسمة أصر المجتمع السياسي على استعجالها هروبا من زمن التنمية إلى عبثية السياسة!
إن أهمية المعارضة في أي نظام سياسي غير قابلة للتشكيك. وهذا ما يشي به وضعها في موريتانيا على المستوى الشكلي والنظري؛ حيث اعترف النظام السياسي بالمعارضة باعتبارها مؤسسة، لكن هذا الانطباع الحسن عن أهمية المعارضة لن يكون بديهيا لدى المواطن الموريتاني بعد اليوم؛ لأنه أصبح يرى في المعارضة على ضوء ممارستها وتاريخها كيانا مغنميا مترهلا، مما جعل بعضهم يصف المعارضة في موريتانيا متندرا بأنها هبة السلطة وللسلطة!
فلئن كانت المعارضة الموريتانية في باكورة تشكلها (إبان ما عرف بالتحول الديموقراطي بداية التسعينات ) أشاعت أملا حقيقيا بإمكانية المراهنة عليها كفاعل سياسي مرشح في المستقبل لصقل التجربة الديموقراطية الوليدة وتحقيق التداول السلمي على السلطة ؛ إلا أنها ما لبثت في تقليد متأصل حول ولع المغلوب بتقليد الغالب أن تناهبتها أمراض السلطة نفسها من الجمود وضعف الفاعلية والمناعة ...إلخ
بل إن القوى الإيديولوجية المعارضة من مواقع مختلفة أعطت للنخب العسكرية الفرصة وأنضجت لهم الظرف لتذرعها بمحاولة التغيير العنيف لسلطة ولد الطايع والتي كانت تئن طبيعيا بفعل التقادم وتحت تراكم المشكلات المزمنة، وكانت "المحاولة الانقلابية" خطأ جسيما واستعجالا للغنم دون بذل ما تستحقه المرحلة من الصبر على مغارم النضال المدني والذي كان -حسب رأينا - قاب قوسين أو أدنى من تحقيق كثير من أهدافه .
ويكفي دليلا ساطعا على أن الخلل البنيوي في المعارضة يتعلق بالاستعجال على المغانم فشلها بعد أن تهيأت الأسباب في ما بعد انقلاب 2005 ؛ حيث فقدت المبادرة بعد هذه الفرصة للم الشتات وتسيد المشهد ونسج الخطة المحكمة للانتقال نحو الديموقراطية بشكل لا رجعة فيه . غير أن قيم التخالف والتناكر بين المرجعيات المعارضة أضاع فرص الانتقال وسمح لخيارات الحكم العسكري بالنفاذ.
ورغم أن ما لا يدرك كله لا يترك جله، فإن المعارضة الموريتانية في حينه افتقدت سياساتها للبرغماتية الايجابية والعقلية المتجاوزة، ولم تعط الفرصة للتحول الشكلي والصوري في تحول مقعد رئاسة من عقيد إلى مدني، لتبني عليه ما هو ممكن، وبدل ذلك نسيت مشكلات الوضع السياسي الجوهرية والعويصة وأصبح وجود مدني في الحكم بالنسبة لهذه المعارضة المدنية – في حينه- علقما لا يحتسى.
وقد مكر شيطان السياسة ولعب بالرؤوس الكبيرة: لماذا الغريم وليس نحن؟ وهو ما جعل هذه المعارضة يصدق عليها العسكر ظنه فتخطط ويتواصل مكر الليل بالنهار لإحداث وضعية قلقة جديدة تمكنها من استعادة الانتخابات أو إحداث انقلاب تعتقد واهمة امكانية ركوب مخرجاته.
وكانت في كل ذلك تصدر عن وعي ضيق بمصالح أنانية لا حساب فيها للوطن ولا لمستقبل الديموقراطية، وعدم إدراك السلطة المنتخبة حينها حقيقة تعقد المشهد السياسي الوطني، وبوعي أوعن غير وعي كانت ضحية مخطط من يصنعون الحدث الحقيقي في موريتانيا منذ 1978.
هذا الوضع جعل المعارضة في الوهلة الأولى تحتضن انقلاب أغشت 2008 وإن حاولت التملص بعد ذلك - حقا إنما الصبر عند الصدمة الأولى – بعد حصول اليقين بعودة الوديعة؛ فقلب لهم النظام ظهر المجن بعد أن أعطوا فرصة للفشل لا أكثر.
ومنذ ذلك اليوم وسلوك حليمة المعارضة لم يتغير أو يتبدل؛ فأصبحت مثالا على التخالف والتنديد ببعضها وبالنظام في سلوك سيزيفي لم يحقق أي اختراق للمشهد السياسي والتأثير فيه بما يخدم المسألة الديموقراطية رغم الأحداث المزلزلة والفرص المتوالدة في السنين القليلة الماضية.
إلا أن حالة التمانع التي ترجمتها دعوات التلاغي السياسي ولدت حالة من الاستقطاب السلبي والسأم من المنحى الراديكالي الذي انتهجته بعض مكونات المعارضة مضيعة استثمار الفرص التي لا حت من وقت لآخر ، فضلا عن حالة الاحتقان داخل المؤسسات الحزبية – عدا استثناءات قليلة عرفها حزب السلطة ( التعيين) وحزب تواصل( التوجيه) بغض النظر عن حقيقتها وفاعليتها إلا أنها تخدم صورة الحزبين على مستوى الصورة والخطاب – وهو ما يترجم حالة انسداد الأفق أمام الأجيال الصاعدة داخل هذه الأحزاب .
غير أن من أخطر ما نزع وهدد مصداقية المعارضة في موريتانيا هو مراهنتها الواعية أو غير الواعية – كما أشرنا سالفا –على الحلول غير الديموقراطية كالانقلابات والثورة في دعوات صريحة وركوب أوضاع مخاطرة. وايغالا من المعارضة في اضاعة الفرصة عليها كبديل ديموقراطي ظلت أطراف عديدة ترتهن للخارج متجاهلة أهمية تحييد العامل الخارجي عن التأثير في سياستنا الداخلية خاصة في أوقات عادية لم يكن البلد فيها يعاني من أوضاع استثنائية نحتاج فيها طلب المساعدة من المجموعة الدولية. إنه -ببساطة صادمة- الفشل في الرهان على الذات وعلى قوة الحقيقة في حاجة البلد للإصلاح والتغيير من الداخل.
واليوم يصل النظام السياسي الموريتاني منعطفا جديدا تتلاحق فيه الاستحقاقات السياسية، والشعب الموريتاني في أغلبيته الصامتة يعيش أشواق التغيير والإصلاح يائسا من طبقته السياسية. وهو وضع تدخله المعارضة - في أغلبها- بسجل غير نظيف من عدم فهم الواقع، وكونها أصبحت ناديا مختلطا لأشخاص وأفكار وقيم لا خيط ينظمها ولا منطق يمكنه أن يجمعها؛ معلنة في الظاهر حتمية التعاضد ولكن الخبرة تنبؤنا بأنهم ليسوا جميعا بل قلوبهم وأهدافهم شتى.
هل نحن حقا بحاجة لإعادة اختراع العجلة؟ وهل الرهان على أن تتطور المعارضة ممكن بعد؟ أو أن ديناميكيات الواقع والمجتمع لا تقبل التوقف والانتظار؟ وأن حاجتنا الحقيقية تكمن في استحداث أطر جديدة أكثر ملاءمة للعمل السياسي مما هو قديم وتقليدي .
في الأخير وجب التنبيه على أننا نتكلم على المستوى الكلي لأداء المعارضة، والذي لم يكن موفقا في المحصلة العامة؛ وليس على مستوى التفاصيل التي شهدت نجاحات جزئية لا يمكن انكارها إذ تظل المعارضة دائما قادرة بقليل من التخطيط المشترك وفهم المعطيات اللحظية تحقيق أمثالها. ولكن لا يمكن -ووضعية المعارضة كما وصفنا- تحقيق الهدف الكلي للديموقراطية الموريتانية: تحقيق التداول السلمي على السلطة.
ويظل السؤال الكبير: ما الذي يمكن أن تضيفه هذه المعارضة والتي تعتبر منتجا محضا للواقع الموريتاني المتأزم قيميا وفكريا وتنظيميا حتى لو وصلت للسلطة؟! وهذا السؤال هو مبعث التفكير لاستخراج نخب جديدة ذات نظرة جديدة ويمكنها أن تضيف جديدا.